فورين افيرز
عصر اللاقطبية
عصر اللاقطبية
ريتشارد هاس
أوضح رئيس المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية ريتشارد هاس في مقالٍ نشره موقع فورين أفيرز هذا الشهر أن اللحظة القطبية الأحادية التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأميركية انتهت، مؤكداً أنه سيتم العمل على إعادة تحديد العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين بمنظورٍ غير قطبي.
أشار هاس في مقالته إلى أن القوة ستنتشر بدل أن يتم تركيزها، لافتاً إلى أن تأثير الدول الوطنية سينحدر، في الوقت الذي سيزيد في تأثير العوامل اللاوطنية.
وأكد هاس أن الخصائص الأساسية التي حددت طبيعة العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين باتت تظهر حالة من انعدام القطبية، فالعالم لم يعد تهيمن عليه دولة أو دولتان أو حتى عدة دول، بل بات الأمر يرتكز إلى عشرات العوامل التي تمتلك وتمارس أنواعاً مختلفة من القوة، الأمر الذي يشكل تحولاً عما كان عليه الحال في الماضي.
ومن المعروف أن القرن العشرين بدأ بمجموعة متعددة من القوى الكبرى، إلا أنه بعد مضي قرابة خمسين عاماً، وعقب وقوع حربين عالميتين، ظهر نظامٌ ثنائي الأقطاب في العالم. ومع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، فتح النظام الثنائي القطبية الباب ليحل محله نظام أحادي القطبية.
ولفت هاس إلى أن القوة أصبحت مبعثرة في الوقت الراهن، الأمر الذي أدى إلى طرح العديد من التساؤلات حول النظام اللاقطبي، من ضمنها كيفية اختلاف هذا النظام الجديد عن الصيغ الأخرى للنظام العالمي، إضافة إلى التساؤل حول كيفية ظهوره والسبب في ذلك، وما نتائجه المحتملة، وكيف يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع هذا الأمر.
النظام العالمي الأحدث
وأوضح هاس أن العالم قد يبدو متعدد القطبية في الوقت الراهن، فالقوى الرئيسية –الصين، الاتحاد الأوروبي، والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة الأميركية- تحتوي على أكثر من نصف عدد سكان العالم وما يصل إلى 75 % من الناتج الإجمالي العالمي، إضافة إلى أن هذه القوى تنفق ما يصل إلى 80 % من تكاليف الإنفاق العسكري، إلا أنه أكد أن هذه الأرقام قد تكون خادعة، لافتاً إلى أن عالم اليوم يختلف عن الصورة التقليدية للنظام المتعدد القطبية، مع وجود مراكز قوى متعددة ليست قومية الطابع بالضرورة.
ووفقاً لما ذكره هاس، فإن أحدى الميزات الرئيسية للنظام الدولي المعاصر تتمثل في خسارة الدول القومية احتكارها للقوة، مع وجود المنظمات الإقليمية والعالمية والميليشيات، إضافة إلى مجموعة من المنظمات والشركات غير الحكومية، لافتاً إلى وجود العديد من القوى الإقليمية مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي والمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية، وجنوب إفريقيا ونيجيريا في إفريقيا، إضافة إلى مصر وإيران وإسرائيل والسعودية في الشرق الأوسط، علاوةً على باكستان في آسيا الجنوبية، وأستراليا وأندونيسيا وكوريا الجنوبية في شرق آسيا وأوقيانوسيا.
وأضاف هاس إلى قائمة مراكز القوى الجديدة عدداً من المنظمات، من ضمنها المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي، والأمم المتحدة، والبنك الدولي) وبعض المنظمات الإقليمية (الاتحاد الافريقي، وجامعة الدول العربية، وجمعية دول جنوب آسيا، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الدول الأميركية، الجمعية الآسيوية الجنوبية للتعاون الدولي)، إضافة إلى المنظمات الوظيفية (وكالة الطاقة الدولية، وأوبك، ومنظمة تعاون شنغهاي، ومنظمة الصحة العالمية).
ولم يستثن هاس الشركات العالمية الضخمة من القائمة، فأضاف إليها الشركات التي تسيطر على قطاعات الطاقة والمالية والصناعة، علاوةً على بعض الكيانات الإعلامية مثل الجزيرة والسي إن إن والبي بي سي، و«الميليشيات» المسلحة مثل حماس وحزب الله وجيش المهدي وطالبان، والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والمنظمات الإرهابية (القاعدة)، مضيفاً مراكز احتكار المخدرات والمؤسسات غير الحكومية الخيرية، الأمر الذي جعل العالم يشهد وجود قوىً موزعة بشكلٍ أكبر، بأكثر مما عليه الحال مع القوى المركزة.
ورأى هاس أن الولايات المتحدة الأميركية ستبقى لفترةٍ طويلة نقطة تمركز القوة الأكبر، فهي تنفق أكثر من 500 بليون دولار سنوياً على الجيش – وأكثر من 700 بليون دولار أميركي في حال تم تضمين الحملتين على أفغانستان والعراق ضمن هذه الموازنة- موضحاً أن الناتج الإجمالي الأميركي يصل إلى 14 تريليون دولار، ما يجعل واشنطن أكبر اقتصادٍ على المستوى العالمي، يضاف إلى ذلك التطور الثقافي والتقني.
إلا أن حقيقة القوة الأميركية يجب ألا تخفي الهبوط النسبي لمركز الولايات المتحدة في العالم، حسبما ذكر هاس وخاصةً أن الهبوط النسبي في القوة يحمل في طياته انحداراً مؤكداً في التأثير والاستقلالية، الأمر الذي يدل عليه انخفاض حصة واشنطن من الواردات العالمية إلى أقل من 15 %.
وعلى الرغم من أن الناتج الإجمالي الأميركي يصل إلى أكثر من 25 % من الناتج الإجمالي العالمي، إلا أن هذه النسبة ستنخفض عبر الوقت، حسبما أكد هاس، مع الأخذ بعين الاعتبار التفاضل الفعلي والمتوقع بين نسبة نمو الولايات المتحدة وتلك الخاصة بعمالقة آسيا وغيرها من الدول، علماً أن عدداً كبيراً من هذه الدول تفوق نسبة نموه نسبة نمو واشنطن بمرتين أو بثلاث مرات.
وبالكاد يعد نمو الناتج الإجمالي، المؤشر الوحيد على انتقال الهيمنة الأميركية الاقتصادية، إذ يعتبر ارتفاع تمويلات الثروة السياسية في دولٍ مثل الصين، والكويت، وروسيا، والسعودية، والإمارات دليلاً آخر على هذا الانتقال، طبقاً لهاس، حيث سيطرت حكومات هذه الدول على كميات كبيرة من الثروة، جاء معظمها من صادرات النفط والغاز، لتصل إلى 3 تريليونات دولار أميركي، علماً أن الثروة التي تحصل عليها هذه الحكومات تنمو بنسبة تريليون دولار في السنة الواحدة.
وأكد الخبير الأميركي أن أسعار الطاقة المرتفعة التي ظهرت بشكلٍ رئيسي نتيجة اندفاع المطالب الصينية والهندية على هذه الموارد، ستستمر في الارتفاع، الأمر الذي يعني أن حجم وأهمية هذه التمويلات سيستمران في النمو.
وأشار هاس إلى أن أسواق تبادل أوراق المال أخذت صعوداً ما أدى إلى انسحاب الشركات من الأسواق المالية الأميركية، لدرجة أنها بدأت بإطلاق عروضٍ أولية عامة، موضحاً أن لندن باتت تنافس نيويورك في أن تكون مركز العالم المالي، علماً أنها فاقت المدينة الأميركية بعدد العروض الأولية العامة التي تستضيفها.
كما أشار هاس إلى انخفاض قوة الدولار أمام اليورو والجنيه الإسترليني، مرجحاً أن تنخفض قيمته نسبةً إلى العملات الآسيوية وخاصةً أن أغلبية التبادلات العالمية الأجنبية بدأت تظهر بعملاتٍ غير الدولار، الأمر الذي قد يحدث نقلة لسيطرة اليورو على النفط، أو يسمح بسيطرة مجموعة من العملات على هذا القطاع الحيوي الهام، ما يترك الاقتصاد الأميركي عرضةً للتضخم وللأزمات المالية.
وأكد هاس أن الأسبقية الأميركية تشهد في الوقت الراهن تحدياً في مجالاتٍ أخرى، من ضمنها التأثير العسكري والدبلوماسية، إذ إن مقاييس الإنفاق العسكري ليست نفسها الخاصة بمقاييس القدرة العسكرية، لافتاً إلى أن أحداث الحادي عشر من أيلول أظهرت أن استثماراً صغيراً للإرهابيين يستطيع تقديم مستوياتٍ استثنائية من الأضرار الإنسانية والطبيعية. وأوضح هاس أن العديد من القطع العسكرية الأكثر غلاءً لا يقدم فائدة كبيرة في الصراعات الحديثة التي تستبدل فيها ساحات المعارك التقليدية بالمناطق المدنية المتنازع عليها، مؤكداً أن الأعداد الكبيرة للجنود المسلحين بأسلحة خفيفة يمكن أن تثبت حضورها في ظل وجود أعداد قليلة من الجنود الأميركيين المدربين والمدعمين بأسلحة أفضل.
وأكد هاس أن الدعوات التي تطالب من خلالها الولايات المتحدة الدول الأخرى بالإصلاح باتت تلقى آذاناً صماء، موضحاً أن برامج المساعدات الأميركية أصبحت تقدم نتائج أقل، في الوقت الذي ستكون فيه العقوبات الأميركية أقل قدرةً على التأثير والإنجاز.
وفي هذا الصدد، أشار هاس إلى أن قدرة الولايات المتحدة في الضغط على طهران حصلت على دعمٍ من الدول الأوروبية الغربية، لكنها ضعفت بتردد الصين وروسيا، لافتاً إلى أن قدرة التأثير الأميركية ضعفت بتخفيض بكين وموسكو الجهود الدولية الرامية للضغط على حكومة السودان بهدف إنهاء الحرب في دارفور، علماً أن باكستان أظهرت بشكلٍ متكرر قدرةً على مقاومة التوسلات الأميركية، الأمر الذي قامت به إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وزمبابوي أيضاً.
وأظهر هاس أن ضعف التأثير الأميركي انتقل إلى عالم المعلومات، إذ بدأت المدونات ومواقع الإنترنت غير الأميركية بمنافسة الأخبار والتعليقات التي تنتجها واشنطن، في حين أن انتشار المعلومات يعد سبباً في الوصول إلى النظام اللاقطبي، إضافة إلى كونه سبباً في انتشار الأسلحة.
وداعاً للنظام القطبي الواحد
أكد هاس أن النظام القطبي الأحادية انتهى، مشيراً إلى أن الهيمنة الأميركية، التي استمرت لما يتراوح بين 15 و20 سنة، تشكل مجرد لحظة في التاريخ وخاصةً أن سياساتها حفزت مناهضيها لمواجهتها، الأمر الذي دفع لتشكيل نظامٍ لا قطبي.
وعلى الرغم من انتشار معاداة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، إلا أنه لا تتواجد قوة عظمى منافسة لواشنطن، حسب هاس، الأمر الذي رده إلى عدم التكافؤ بشكلٍ كبير بين قوة الولايات المتحدة وقوة المنافسين المحتملين.
ورغم أن الصين قد تصبح قادرة على امتلاك ناتجٍ إجمالي محلي يمكن مقارنته بنظيره الأميركي، إلا أن قسماً كبيراً من هذه الثروة سيتم امتصاصه بتزويد احتياجات عدد السكان الهائل في هذه الدولة، كما أكد هاس، الأمر الذي لن يسمح لها بتوفير الأموال لتمويل التطوير العسكري أو مشاريعها الخارجية، مشيراً إلى صعوبة حفاظ الصين على الاستقرار السياسي خلال فترةٍ من النمو الديناميكي.
وعلى الرغم من أن الناتج الإجمالي المحلي للاتحاد الأوروبي أكبر من نظيره الأميركي، إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يتصرف بالطريقة الموحدة التي تلجأ إليها الدولة القومية، حسب هاس، مؤكداً أنه غير قادر على التصرف بالطريقة الحازمة للقوى العظمى التاريخية.
وأوضح هاس أن اليابان تعاني من تقلص عدد سكانها وزيادة معدل أعمارهم، إضافة إلى أنها تفتقد الثقافة السياسية الضرورية لتلعب دور القوة العظمى، مؤكداً أن روسيا ما تزال تمتلك اقتصاداً يعتمد بشكلٍ كبير على المحاصيل التي يتم دفعها فوراً، إضافة إلى كونها مرهقة بالتعداد السكاني الهابط والتحديات الداخلية الخاصة بترابطها.
ورد هاس عدم ظهور المنافسين للولايات المتحدة لاعتماد القوى العظمى الأخرى على النظام الدولي الراهن للحصول على المنفعة الاقتصادية والاستقرار السياسي، الأمر الذي قلل من هذه القوى في عرقلة نظامٍ يخدم مصالحها الوطنية.
وعلى الرغم من عدم ظهور دول منافسة على مراتب الدول العظمى، إلا أن النظام القطبي الواحد انتهى، وفقاً لما ذكره هاس، الأمر الذي رده إلى الضرورة التاريخية لاستمرار صعود قوى جديدة من الشركات، والمنظمات قادرة على ممارسة التأثير على المستوى العالمي والإقليمي، مشدداً على أن السياسة الأميركية عجلت الوصول إلى النظام اللاقطبي، نتيجة سياسات الطاقة التي تتبعها وخاصة أن الاستهلاك الأميركي للنفط زاد منذ السبعينيات بنسبةٍ تصل إلى قرابة 20 %، علماً أن واردات واشنطن من المنتجات النفطية زادت عن الضعف، الأمر الذي ساهم في صعود سعر النفط العالمي إلى قرابة 140 دولاراً في أقل من عقدٍ من الزمن، وسمح بصعود الدول المنتجة للنفط والغاز كمراكز رئيسية للسلطة.
وأوضح هاس أن السياسة الاقتصادية الأميركية لعبت دوراً في هذا الأمر أيضاً، مع خوضها للحروب في أفغانستان والعراق، الأمر الذي أدى إلى تراجع موقف الولايات المتحدة المالي من فائضٍ وصل إلى 100 بليون دولار عام 2001 إلى عجزٍ تم تخمينه بحوالي 250 بليون دولار في العام الماضي.
ولقد ساهمت الحرب على العراق في إضعاف مركز الولايات المتحدة على المستوى العالمي، كما أكد هاس، حيث أثبتت هذه الحرب أنها كانت خياراً باهظ الثمن على الصعيد العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والإنساني وخاصةً أن الأمر لا يتعلق فحسب بحاجة الجيش الأميركي إلى جيلٍ جديد ليتعافى من الحرب الجارية في العراق، بل إنه يرتبط أيضاً بفقدان الولايات المتحدة الأميركية الأصول العسكرية الكافية للاستمرار بما تقوم به في العراق، مع افتراض وجود ضغوط أقل في كافة الجبهات.
وفي النهاية، فإن العالم اللاقطبي ليس ببساطة نتيجة صعود دولٍ ومنظماتٍ أخرى أو نتيجة حالات الفشل وحماقة السياسة الأميركية فحسب، فهو أيضاً نتيجةٌ حتمية للعولمة، طبقاً لما ذكره هاس، إذ عززت العولمة مكانة النظام اللاقطبي نتيجة التدفقات الحدودية الكثيرة التي تحدث خارج سيطرة الحكومات ودون معرفتها، الأمر الذي أضعف من تأثير القوى الرئيسية على المستوى العالمي. كما أن هذه التدفقات غالباً ما تعمل على تقوية قدرات الجهات والعوامل غير الحكومية التي تشهد زيادة دراماتيكية في امتلاك الثروة والانتقالات من المستوردين، والإرهابيين الذين يستخدمون الإنترنت للتجنيد والتدريب، والنظام المصرفي الدولي لنقل الموارد، إضافة إلى نظام النقل العالمي لتحريك الأشخاص والدول "المارقة" التي تستطيع استغلال الأسواق السوداء والرمادية، إضافة إلى زيادة قوة 500 شركة عالمية، وبذلك بات من الواضح أن مفهوم الدولة الأقوى لم يعد يعني بعد الآن الاحتكار القريب للسلطة، إذ أصبح تجميع وإظهار الأفراد والمجموعات للسلطة الكبيرة، أسهل من أي وقتٍ مضى.
فوضى لا قطبية
لا شك أن العالم اللاقطبي ستكون له تداعياتٍ سلبية متزايدة على الولايات المتحدة، حسبما قال هاس وخاصةً أن هذا النظام سيصعب على واشنطن قيادتها للتحديات الإقليمية والدولية التي تسعى أثناءها لترويج استجاباتٍ جمعية، مع وجود قوى جديدة تحاول تأكيد تأثيرها على الساحة الدولية.
وأكد هاس أن اللاقطبية ستزيد عدد التهديدات ونقاط الضعف التي تواجهها دولة مثل الولايات المتحدة، وقد تأخذ هذه التهديدات شكل الدول المارقة، أو المجموعات الإرهابية، أو منتجي الطاقة الذين قرروا أن يخفضوا إنتاجهم، أو المصارف المركزية التي يمكن أن يؤدي عملها أو تباطؤها إلى حالاتٍ تؤثر على دور وقوة الدولار الأميركي.
وتعد إيران مثالاً جيداً على هذا الأمر، طبقاً لما ذكره هاس، إذ تعد جهودها الرامية لتكون قوة نووية نتيجةً لانعدام القطبية وخاصةً أن طهران تشكل تركيزاً أكبر للقوة، بفضل ارتفاع أسعار النفط أكثر من أي شيءٍ آخر، ما جعلها قادرة على ممارسة التأثير في العراق ولبنان وسورية والمناطق الفلسطينية، إضافة إلى التأثير في منظمة أوبك، كما أن طهران لديها العديد من مصادر التكنولوجيا والجوانب المالية، إضافة إلى عددٍ كبير من الأسواق التي تحتاج إلى صادراتها من الطاقة، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة غير قادرة على إدارة الملف الإيراني.
ويرى هاس أن الولايات المتحدة تستطيع، بل ويجب عليها، أن تتخذ بعض الخطوات لتقليل فرص أن يصبح النظام اللاقطبي مرجلاً لعدم الاستقرار، داعياً واشنطن إلى ترتيب بيتها الداخلي.
وأكد هاس أن التعامل مع قطاع الطاقة يعد أحد أهم القضايا التي يجب على واشنطن التعامل معها، لافتاً إلى أن تخفيض الاستهلاك يدفع باتجاه تقليل الضغط على الأسعار العالمية، الأمر الذي من شأنه تخفيض الضعف الأميركي أمام تلاعب السوق الذي تقوم به الدول المزودة للنفط وخاصةً أن هذه السياسات لا تؤثر في الاقتصاد الأميركي، حسبما زعم هاس.
وشدد هاس على ضرورة تقوية الأمن الداخلي الأميركي وخاصة أن الإرهاب لا يمكن استئصاله، مع وجود أشخاص غير قادرين على الاندماج في المجتمعات ويسعون إلى تنفيذ أهداف لا يمكن إدراكها عبر السياسات التقليدية.
وطالب هاس بجعل المجتمع الأميركي أكثر مرونة في التعامل مع الأمن الداخلي، الأمر الذي يتطلب تمويلاً وتدريباً ملائماً للمستجيبين إلى حالات الطوارئ، إضافة إلى بنية تحتية أكثر مرونة وديمومة، داعياً إلى السعي نحو مقاومة الانتشار المتزايد للأسلحة النووية والمواد النووية الخطيرة، الأمر الذي يتطلب تقديم يورانيوم مخصب يمكن إدارته على المستوى الدولي، أو بما يسمح للمجتمع الدولي بتقديم المساعدة للدول الراغبة في استخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء عوضاً عن القنابل.
وأوضح هاس أن الاعتماد على الضربات الرادعة في حق الدول التي تسعى لامتلاك السلاح النووي من شأنه جعل العالم اللاقطبي أقل استقراراً، مرجحاً أن تشجع الحكومات على تطوير أو شراء الأسلحة النووية لتكون سلاحاً رادعاً في يدها، إضافة إلى أنها قد تؤدي إلى إضعاف معيار استخدام القوة لأغراضٍ أكثر من الدفاع عن النفس.
وشدد هاس على ضرورة مقاتلة الارهاب، حيث استعرض العديد من الطرق الرامية لإضعاف المنظمات الإرهابية من ضمنها استخدام الاستخبارات ومصادر تدعيم القانون والإمكانيات العسكرية، مشدداً على أن تقوم جهات المجتمع المدني بإزالة الغطاء الشرعي على الإرهاب، إضافة إلى ضرورة إيجاد الحكومات طرقاً جديدة لدمج الشباب المعزولين في مجتمعاتهم، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث في غياب الفرصة الاقتصادية والسياسية.
ويرى هاس أن التجارة قد تشكل أداةً فاعلة للاندماج، فهي تعطي الدول حصةً في تجنب النزاع، لأن انعدام الاستقرار يفسد الاتفاقيات التجارية ذات الفائدة التي تقدم ثروة أكبر وتقوي مؤسسات النظام السياسي المحلي، مشدداً على أن التجارة تسهل التطوير، إضافة إلى أنها تخفض فرصة إخفاق الدول والحالة الانعزالية لدى الأفراد.
واقترح هاس توسيع مجال عمل منظمة التجارة العالمية عبر المفاوضات حول مستقبل الترتيبات العالمية التي تخفض الإعانات المالية والحواجز الجمركية وغير الجمركية، مرجحاً أن يتطلب الدعم السياسي المحلي لمثل هذه المفاوضات في الدول المتطورة توسع شبكات الأمان المتعددة، ومن ضمنها شبكات الرعاية الصحية المتنقلة ومعاشات التقاعد، إضافة إلى المساعدة على التعليم والتدريب وتأمين الأجر.
وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة هذه الإصلاحات في السياسة الاجتماعية، إلا أنها تستحق مع ذلك القيمة الاقتصادية والسياسية الإجمالية لتوسيع نظام التجارة العالمي، حسب ما أكد هاس.
وشدد هاس على تأمين مستوى مشابه من التدفق المستمر للاستثمار، حيث يجب تركيز الهدف على تشكيل منظمة استثمار عالمية تشجع تدفقات رأس المال عبر الحدود، إضافة إلى تقليل الفرص التي تحصل عليها عمليات «حماية الاستثمار» في طريق النشاطات التي تقدم فائدة اقتصادية، مثل التجارة، وتبني حصون سياسية في وجه عدم الاستقرار.
كما رأى أن منظمة التجارة الدولية تستطيع تشجيع الشفافية من ناحية المستثمرين وتقرر متى يكون الأمن الوطني سبباً شرعياً لمنع أو الحد من الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى تأسيس آلية لحل النزاعات.
ولفت هاس إلى حاجة الولايات المتحدة لتعزيز قدرتها في منع إخفاق الدولة والتعامل مع تبعاته، الأمر الذي يتطلب بناء وصيانة جيشٍ أكبر، جيش بقدرةٍ أكبر على التعامل مع نوع التهديدات التي واجهته في أفغانستان والعراق، إضافة إلى تأسيس نظيرٍ مدني للاحتياطيات العسكرية التي يمكن أن تزود مجموعة من الأشخاص الموهوبين بهدف المساعدة في مهام بناء الأمة الأساسية، مشدداً على أهمية الاستمرار في تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية للدول الضعيفة بهدف التعامل مع مسؤولياتها تجاه مواطنيها وجيرانها.
القوة العظمى غير الوحيدة تماماً
أكد هاس أن التعددية ستكون أساسية في التعامل مع عالمٍ لا قطبي، الأمر الذي يتطلب فسح المجال للاعبين آخرين في الساحة الدولية، مشدداً على ضرورة إعادة تشكيل مجلس الأمن ومجموعة الدول الصناعية الثماني لعكس عالم اليوم وليس حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ورأى هاس أن الاجتماع الذي عقد مؤخراً في الأمم المتحدة حول كيفية التنسيق الأمثل للاستجابات العالمية على تحديات الصحة العامة يعد مثالاً على ذلك، حيث شارك في الاجتماع ممثلون عن الحكومات ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، إضافة إلى ممثلين عن شركاتٍ دوائية ومؤسساتٍ ومجالس الخبراء والجامعات، الأمر الذي ينطبق أيضاً على اجتماع بالي الذي عقد في كانون الأول من العام الماضي لتناول تغير المناخ.
كما شدد على ضرورة أن تكون التعددية أقل رسمية وشمولية، على الأقل في المراحل الأولية، متنبئاً بتصاعد الحاجة لوجود الشبكات والمنظمات.
وأكد هاس أنه ينبغي على واشنطن الأخذ بعين الاعتبار توقيع اتفاقياتٍ مع أطراف أقل وأن تسعى لتحقيق أهدافٍ أضيق، معتبراً التجارة مثالاً على هذا الأمر وخاصةً أن الاتفاقات الإقليمية والثنائية تملأ الفراغ الذي يخلقه إخفاق تضمين دورة تجارةٍ عالمية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن التعددية حسب الطلب أصبحت تشكل نظام وقانون اليوم.
ورأى هاس أن اللاقطبية تعقد الدبلوماسية، فالعالم اللاقطبي قد لا يحتوي على لاعبين أكثر فحسب، إذ قد يفتقر أيضاً إلى التراكيب والهياكل والعلاقات الثابتة الأكثر توقعاً، والتي تميل لتحديد عوالم القطبية الأحادية والقطبية الثنائية، والقطبية المتعددة، معتبراً أن التحالفات ستخسر الكثير من أهميتها وخاصة أنها تتطلب تهديداتٍ متوقعة، إضافة إلى وجهات نظرٍ والتزاماتٍ واضحة.
كما توقع هاس أن تصبح العلاقات أكثر انتقائية وموقعية، حيث سيصبح من الصعوبة بمكان تصنيف الدول الأخرى في منزلة واحدة وخاصةً أن الدول ستتعاون حول بعض القضايا وستقاوم بعضها بعضاً في قضايا أخرى، مؤكداً أن النظام اللاقطبي سيقيم وزناً كبيراً للاستشارات المتعلقة ببناء التحالف وللدبلوماسية التي تشجع التعاون عندما يكون ممكناً، الأمر الذي من شأنه حماية التعاون من السقوط في الخلافات الحتمية.
وفي النهاية، أكد هاس أن الولايات المتحدة لن يكون لديها ترف اتباع سياسة «إما أن تكونوا معنا أو ضدنا» على مستوى السياسة الخارجية وخاصةً أن اللاقطبية ستكون صعبة وخطيرة عليها، مشدداً على أن تشجيع درجة أكبر من الاندماج العالمي سيساعد على الترويج للاستقرار، الأمر الذي ينطبق على تأسيس مجموعة رئيسية من الحكومات وغيرها من الجهات الأخرى الملتزمة بالتعاون التعددي.
ورأى هاس أن «اللاقطبية المقررة» التي اقترحها قد لا تلغي اللاقطبية، لكنها ستساعد على إدارتها وعلى زيادة الاحتمالات في أن النظام العالمي لن يتدهور أو يتحلل.
هناك تعليق واحد:
شكرا لهذا العرض المفيد.. هل يمكن التواصل بالبريد الالكتروني:
هذا بروفايللي للتعارف:
http://www.alghad.com/members/45-%D8%AF-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AC%D9%85%D9%8A%D9%84-%D8%B9%D8%B2%D9%85
بريدي:
aj.azem@gmail.com
إرسال تعليق