الأحد، 27 ديسمبر 2009

Sphere: Related Content

التعكيرات التي تلت زيارة الحريري لدمشق اثارت الخوف من اعتراضات عنفية على التحولات

كمائن مؤجلة في مناطق ذات خصوصية ديموغرافية ومذهبية؟!

زيارة الحريري لدمشق محصّنة بالتفاهمات ولأنها جزء من مشهد كليّ

ينشر في "الاسبوع العربي" في 4/1/2010

إرتحل العام 2009، الذي اثمل اللبنانيين ازمات متسلسلة وبعضا من نوافذ الامل، على حدث زيارة سعد الدين بن رفيق الحريري الى دمشق. حدث كان لاشهر مضت ضربا من خيال وسوريالية، وأمْلته التفاهمات العربية وضرورات الانتظام في سياقها، وتحوّل عنوانا سياسيا عريضا للسنة الجديدة.

على امتداد الاسابيع السابقة والممهدة لزيارة رئيس الحكومة سعد رفيق الحريري لدمشق والتحضيرات التي تولتها الرياض من ألفها الى يائها، لم تغب الهواجس من تعديات سياسية او امنية على الزيارة، تسبقها لمنعها او ارجائها، او تليها لإحباط نتائجها وإظهار رئيس الحكومة عاجزا عن اقناع جمهوره بجدوى ما أقدم عليه.

الحادثتان الامنيتان اللتان اعقبتا الزيارة، من إحراق مركز لحزب البعث العربي الاشتراكي في الكولا ليل السبت في التاسع عشر من كانون الاول (ديسمبر) بالتزامن مع توجه الحريري الى العاصمة السورية، الى استهداف الباص السوري في دير عمار ليل الاحد في العشرين من الشهر ذاته، بعد مضيّ اقل من 12 ساعة على انتهاء الزيارة، صنّفا، في الاتهام السياسي، اعتداء عليها وعلى ما خرجت به من تفاهمات وآمال عريضة بتغيّر في المقاربة السورية للبنان وفي التعاطي اللبناني مع سوريا.

ولئن اظهرت التحقيقات الاولية ان حادثة دير عمار شخصية بحتة، بعدما اعترف سائق الباص السوري بخلافه مع مجموعة من اللبنانيين على اقتسام عائدات عمليات تهريب للبضائع والمازوت، فإن المواقف الذي تلت الحادثة اعادت الى الواجهة موجات "الاتهام السياسي"، خصوصا ان الحادثتين في توقيتهما وموضعهما الجغرافي والديمغرافي، معطوفتين على ردود الفعل السياسية والمتابعات الديبلوماسية الحثيثة، حملتا الكثير من المؤشرات على ما قد ينتظر او يتوقَّع للاستقامة المستجدة في العلاقة اللبنانية – السورية، او بالتحديد العلاقة بين سوريا ورئاسة الحكومة اللبنانية، ومن ورائها اهل السنة والجماعة وجمهور رفيق الحريري.

اختراقات للتشويش

أشّر الاستنفار الدبلوماسي والسياسي والأمني الذي أعقب الحادثتين وقبل ظهور حقيقة باص دير عمار، الى ان التعاطي معهما قام على قاعدة جرمية –لبنانية وسورية بشهادة وزير الخارجية وليد المعلم- بإعتبار انها خطرة في أبعادها ودلالاتها، وصولا الى تشبيه اطلاق النار على الحافلة بأنه اطلاق نار سياسي على زيارة الحريري ومصالحته مع الرئيس السوري بشار الاسد.

وعلى هذه القاعدة الجرمية والشكوك في احتمال تسجيل اختراقات امنية خطرة للتشويش على المستجد في العلاقة مع سوريا، ثمة من حلفاء دمشق من يجزم ان هناك جهات متضررة من الوضع المستجد القائم على اطلال وضع (معاد) معاكس كليا ساد الاعوام الاربعة الفائتة، لم يحلُ لها انقلاب الخصومة تطبيعاً، ولن تتوانى عن التشويش والتعكير بالسلاح الامضى لديها أي الامن، في استعادة لتطورات امنية وحوادث تفجيرات وقعت في تواقيت مشبوهة ووُظفتها الجهات المتضررة من الاستقرار محليا وخارجيا، لجعل لبنان تحت وصاية دولية. وليس انجع من رسائل الاعتراض والاحتجاج السياسية، افتعال مشاكل في مناطق ذات حساسية فائقة ديموغرافية ومذهبية، مؤهلة كي توصل الرسالة الاعتراضية بالبريد المضمون والسريع.

الكمائن اللاحقة

لكن لماذا كل هذه الهواجس المتنبئة بإمكان حصول اختراق امني؟ ولماذا رُبطت حادثة دير عمار، قبل تكشف الدوافع والخلفيات، بإحراق مكتب حزب البعث؟ ولماذا ثمة "حدسا" بإعتداء سياسي ممكن على زيارة الحريري لدمشق، عبر حلقات مترابطة بدأت بحادثة الكولا وقد لا تنتهي معها؟

في اعتقاد بعض المراقبين ان:

-الكمائن السياسية نُصبت مبكرا لمصالحة الاسد – الحريري، لكن قد يكون ارتُئي ارجاء الافصاح عنها لما بعد الزيارة لجملة عوامل، في مقدمها انها ستكون اكثر فاعلية ونجاعة في ما لو تم الاجهار بالكمين بعد المصالحة.

-لهذه الكمائن المفترضة اهمية بالنسبة الى الجهة (او الجهات) الفاعلة كون تنفيذها سيكون بمثابة اشهار بولادة حال اعتراضية عنفية شبيهة بحالات الاعتراض زمن طرابلس السبيعنات والثمانينات، تمكنها من فتح خطوط تواصل واتصال مع جهات على الموجة نفسها خارج الحدود.

-بعض المناطق، وخصوصا المترامية الأطراف والمتصلة بمحيط فلسطيني (تخوم مخيمات اللاجئين) والتي يتداخل فيها النشاطان الفلسطيني والأصولي - السلفي وحال من التطرف وصلت أحيانا حدّ استهداف الجيش اللبناني، وكذلك المناطق الموجودة في قلب مساحات ديموغرافية تدين بالولاء لتيار "المستقبل" ولسعد الحريري والتي سبق ان شهدت حالات اعتراضية عنيفة على مسار العلاقة مع سوريا بين العامين 2005 و2008، كلها مناطق قد تكون مرشحة بفعل التركيبة السياسية والاجتماعية والحزبية، لكي تصبح مرتعا للاختراقات الامنية المتوقعة والمتخوَّف منها، بغرض التشكيك بزعامة سعد الحريري كل جمهور تيار "المستقبل"، واستطرادا وضع هذا الجمهور في مواجهة مع التحولات التي يقودها رئيس الحكومة بتشجيع ودعم واحتضان من الرياض.

تفهّم ولا تضخيم

في المقابل، ثمة من يعترض على تضخيم الهواجس الامنية وتصوير اي حادثة انذارا مبكرا الى خطر أمني يتربص بعلاقة الحريري مع سوريا، انطلاقا من اي من الحوادث التي حصلت سواء في احراق مكتب حزب البعث في طريق الجديدة، او في ظواهر اطلاق النار في اكثر من منطقة لا تعكس حالا اعتراضية واسعة في الشارع السني، المتفهّم (تعبير ادق من "المتقبّل")، لخطوات الحريري الابن من جهة اولى، ولموجبات التفاهمات العربية الشاملة التي تتعدى لبنان بجزئيات مشاكله واحداثه الى مجمل العناوين على مستوى الاقليم من جهة ثانية، ولموجبات انتقال الحريري من الزعامة الى رئاسة الحكومة مع ما يفترضه هذا الانتقال من تموضع وتحوّل ومداراة من جهة ثالثة. اضافة الى ان الاسابيع او الاشهر التي سبقت الزيارة كانت كفيلة بالتمهيد لها وتسويقها في وجدان جمهور تيار "المستقبل"، وخصوصا في ظل التركيز على ان اولوية تهديد الكيان انتقلت من مكان الى آخر، بعدما نجحت الرياض في استيعاب دمشق.

لا تغطية

تأسيسا على ذلك، تعتقد وجهة النظر هذه ان اي اختراق امني مهما علا شأنه (بما فيه الاغتيالات والتفجيرات الكبيرة) لن يجد تغطية سياسية او تبريرا، فالحريري نجح في نسج غطاء شامل قبل انتقاله الى دمشق، وفي استيعاب التحفظات عن الزيارة علما ان حلفاءه من مسيحيي قوى الرابع عشر من آذار اعترضوا على شكل الزيارة وتوقيتها لا على مضمونها والدوافع الآيلة الى خطوة مماثلة، وتاليا لن تجد هذه الحوادث مساحة سياسية خصبة لتلتحف بها او تستظلها.

وتعتبر ان عمق التفاهم الذي بلغته العلاقة السورية - السعودية انعكس مباشرة على زيارة الحريري الى دمشق ونتائج محادثاته مع الرئيس السوري بشار الاسد، وان المناخات الايجابية التي تمخضت عنها الزيارة ستدفع في المقابل الى مزيد من الايجابية في العلاقة السورية - السعودية وحتى في العلاقة السعودية - الايرانية. اما بعض القوى المتحفظة أو غير المتحمسة للزيارة فلديها قدرة المشاغبة لكنها لا تمتلك القدرة على فرض انقلاب على النتائج أو المسار الذي رسم، أو القدرة على التعطيل.

وترى وجهة النظر هذه ان زيارة دمشق تحوّل استراتيجي في العلاقة بين البلدين، ما يجعلها محصّنة في وجه خروق امنية مهما علت قيمتها او كبّر حجمها واستهدافاتها، واستطرادا تشكل هذه الزيارة جزءا من مسار عام على مستوى المنطقة، ومساحة تلاق محلي واقليمي ودولي بمفاعيل استراتيجية تمتد سنوات وربما عقودا، ولا ترتبط بحسابات محلية محدودة، ما يصعّب القدرة على اختراقها، ويجعلها جزءا من مشهد كليّ يخطّ بدايات شرق اوسط جديد يقوم على انقاض القوميات المهدَّدة والايديولوجيات المغلقة والثيوقراطيات المترنحة، وهو ما افصح عن بعض جوانبه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الاخيرة لدمشق في الثالث والعشرين من كانون الاول (ديسمبر)، معلنا عن مجلس للتعاون الاستراتيجي عالي المستوى "ليس فقط بين سوريا وتركيا، وإنما بين تركيا وسوريا والعراق ولبنان، وبذلك ستتحول المنطقة كلها منطقة سلام".

الأحد، 20 ديسمبر 2009

Sphere: Related Content

زوارها يؤكدون انها استخلصت عِبر 30 عاما من الاخطاء والتشوهات

دمشق راجعة: مأسسة ومكتب رئاسي وقفازات بيضاء!

القرار 1559 اخرج سوريا من لبنان والحاجة الدولية أعادتها!

ينشر في الاسبوع العربي في 28/12/2009

قد تكون الاعوام الاربعة الفائتة صفحة استثنائية عند بدء تأريخ الاحداث اللبنانية، لما احتوت من تطورات دراماتيكية وتناقضات وإفرازات سوء الفهم والهضم والضمّ. هي، ببساطة، انتهت من حيث بدأت، بمعنى انها شكّلت خلاصة (غير مستفادة؟) من ثلاثة عقود من التجاذب حول موقع سوريا في المعادلة اللبنانية ودورها ومفهوم هذا الدور، وأثبتت لعواصم القرار قدرة اهل لبنان على تفويت الفرص وقصورهم في حكمه بمعزل عن مفهوميّ الرعاية والحضانة، وربما الحضن الحنون ومتلازمة استوكهولم حيث يتملك الرهينة شعور التعاطف حيال خاطفها!

كرّست الاشهر الاربعة الفائتة، منذ قمة الكويت والمبادرة التصالحية التي اسس لها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، عودة سوريا الى لبنان بعد اربعة اعوام من خروجها العسكري (لا السياسي)، وصلت في خلالها العلاقة الثنائية الى أدنى مستوياتها تحت وطأة درجات حادة من التشنج والتوتر والعدائية.

كان وليد جنبلاط أفضل من وصّف الخروج السوري في نيسان (ابريل) 2005، حين قال ذات يوم من ايامه "المجيدة" في "ثورة الارز": "القرار الدولي ١٥٥٩ قتل الرئيس رفيق الحريري، ودم الحريري أخرج السوريين".

خرجت سوريا بقرار اميركي - فرنسي ترجمته قمة النورماندي في حزيران (يونيو) 2004، ووليدها القرار 1559، وكرس خروجها فقدانها الغطاء المصري - السعودي، لتعود، بعد اربعة اعوام، من الباب العريض بتسليم عربي واقليمي وبلا ممانعة اميركية وبحماسة فرنسية، ونتيجة قصور اللبنانيين عن اثبات قدرتهم على إدارة بلدهم بلا مظلات او حاضنات او صفقات.

تعود سوريا سياسيا وليس في حسابها او بالها العودة عسكريا بعدما ثبت لها ان أثمان التموضع الجديد أجدى وبكلفة أقل، ويوفر عليها الكثير من الاحراجات والمشقات، لا بل يؤمن لها موارد سياسية بمباركة دولية.

المشهد اللبناني المتشظيّ الى تغيير واضح المعالم والاتجاهات: الانتقال من الانهيار والتصادم والتصدّع الى هدوء استثنائي واستقرار نسبي، وربما مستدام، الا إذا اتت الرياح الاسرائيلية بما يعاكس أشرعة هذا التهادن اللبناني. اما الاصطفاف العمودي بين معسكرين فآيلٌ الى التحلل تدريجا، بفعل انتظام غالبية مكونات هذا الاصطفاف تحت مظلة التفاهم السوري – السعودي.

نقطة التحوّل

تتراكم عناصر العودة السياسية تباعا وبإطراد ودون عناء كبير، منذ اتفاق الدوحة الذي كان نقطة التحول في مسار الوضع الداخلي وميزان القوى السياسي، وتكرّسه تلاميح لبنانية بدءا من التحول الدراماتيكي في سياسة وليد جنبلاط، مرورا بعودة التواصل بين القيادة السورية ورئيس الحكومة سعد الحريري الذي توجته زيارة الحريري الابن الى دمشق، وليس انتهاء بالاحتشاد الرسمي والسياسي في القرداحة للتعزية بشقيق الرئيس السوري بشار الاسد ولا تخفي الاعتبارات الانسانية واللياقات الاجتماعية الأبعاد والمعاني السياسية في هذا الدفق، كمؤشر الى ان اللبنانيين يعودون الى سوريا في موازاة عودة سوريا الى لبنان، وهو ما فاخرت به صراحة صحيفة "الوطن" السورية بحرصها على إيراد الملاحظة الآتية: "حسب شهود عيان فإن الطريق التي تربط الحدود اللبنانية شمالاً بمدينة القرداحة كانت غاصة بالوفود اللبنانية الآتية لتقديم العزاء للسيد الرئيس بشار الأسد وعائلته"!

إذن، عاد الوضع عند المنفذين الحدوديين الرئيسين شرقا في المصنع وشمالا في العبودية، الى ما كان عليه قبل شباط (فبراير) 2005، لكن بلا الخط العسكري الشهير الذي صوّب عليه جنبلاط مرارا في ذلك العام لإقفاله، كرمز لطيّ مرحلة وبدء أخرى!

لماذا؟

عوامل عدة ساعدت دمشق على فلاحها في تحقيق ما حضّرت له منذ لحظة ان قررت إخراج جيشها في نيسان (ابريل) 2005:

أ-هي نجحت في كسر عزلتها الدولية والعربية عبر نسج علاقة تعاون وتفاهم استثنائيين مع باريس، وارساء حوار "نديّ" مع واشنطن، وصوغ تحالف استراتيجي مع انقرة، وتحقيق مصالحة مع الرياض، من دون ان تتخلى عن أي من تحالفاتها وأوراقها في الاقلي، وخصوصا في ما خص العلاقة مع طهران.

ب-هي نجحت في استعادة زمام المبادرة في لبنان وفي اظهار حجم نفوذها وتأثيرها المستمرين، وفي تأكيدها ان دورها المحوري لا تستمده من وجود عسكري، انما من عوامل أخرى ثابتة جيوبوليتيكية وتاريخية واقتصادية واجتماعية. فقدّمت اليسير من الاثمان لتحصد ثمارا لم تكن لتحصدها لو ظلت على النسق ذاته الذي كانت عليه على امتداد عقودها اللبنانية الثلاثة.

ج-هي اتكأت، كعامل مساعد، على ما نسجت طيلة وجودها في لبنان من قاعدة سياسية وأمنية وشبكة علاقات ومصالح. فأسهم كل ذلك في تعويض ما خسرته، لا بل جعلت عواصم القرار تتراكض اليها لكي تكون عاملا مسهلا في الاستحقاقات اللبنانية لتنال الثناء والمكافأة والاشادة، بعدما كانت هذه العواصم ذاتها قد تراصت في وجهها لمنعها من التدخّل في الشأن اللبناني (القرار 1559)!

د-لكن العودة السياسية الى لبنان لم تكن لتتم بهذه السرعة والزخم لولا متغيرات مساعدة أفادت منها دمشق التي طالما احسنت سياسة حافة الهاوية وكسب الوقت والنفس الطويل وانتظار المتغيرات وإلتقاط الفرص. هي سارعت الى توظيف المتغيرات الدولية والاقليمية وارهاصاتها اللبنانية، فواءمت خطواتها على ايقاع هذه المتغيرات، وتحديدا منذ بدء مفاعيل تقرير بيكر – هاملتون ليكرَّس بفوز باراك أوباما حاملا أولويات جديدة. وهي برعت في الاستثمار في تقدم الهاجس الأمني في العالم العربي على ما عداه، ونجاح اليمين الاسرائيلي في تسلّق الحكم، وتعطل عملية السلام، وتعاظم النفوذ الايراني في الاقليم.

كما برزت معطيات لبنانية جديدة فرضها اتفاق الدوحة، فنجحت دمشق في إبراز تدخّلها الايجابي والمسهّل في انجاز الاستحقاقات المتلاحقة من انتخابات الرئاسة الى الانتخابات النيابية وفوز قوى الرابع عشر من آذار (مارس)، ومن ثم تشكيل الحكومة، وقبلها "الاستجابة" الى المطلب الدولي إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان.

العودة بقفازات بيضاء

لكن هل تكون العودة السورية الثانية على شاكلة دخولها الاول، أم ان دمشق إعتبرَتْ مما شاب إدارتها اللبنانية من اخطاء ومصالح وإقتسام للمغانم والمنافع؟

يجمع زوار دمشق ان القيادة السورية استخلصت الكثير من عِبر العقود الثلاثة، وخصوصا لجهة تكليف جهات امنية ادارة جزئيات الملف اللبناني كانت السبب في الكثير من التشوهات التي اعترت هذه الادارة.

ويلفت هؤلاء الى ان آلية المقاربة الجديدة للشأن اللبناني اخذت في الاعتبار، اولا واخيرا، ضرورة مأسسة العلاقة اللبنانية – السورية على قواعد واضحة تقيها اي توظيفات او استثمارات جانبية او اي منافع شخصية برزت في الاعوام الفائتة على الضفتّين اللبنانية والسورية، وادت الى طغيان طبقة من المنتفعين شوهوا العلاقة الثنائية. وتعتبر دمشق ان اولى خطوات المأسسة تمثلت في تبادل العلاقات الديبلوماسية، على ان تليها خطوات اخرى لا تقل اهمية وخصوصا لجهة حصر العلاقة بين البلدين بالمؤسسات وبعدد من الشخصيات لا يزيد عددها عن اصابع اليد، على ان تكون اي اجتماعات ثنائية مع هذه الشخصيات على مستوى الرئاسة السورية حصرا.

ويكشف زوار دمشق ان حصر علاقة القيادة السورية مع هذه الشخصيات بقصر المهاجرين، ستواكبها مع اولى بدايات السنة 2010 خطوة وضع العلاقة الثنائية بإدارة مكتب رئاسي خاص يشرف عليه اللواء محمد ناصيف خير بك (ابو وائل) الذي يشغل راهنا منصب معاون نائب رئيس الجمهورية بمرتبة وزير، وفي عهدته ملفا العراق والعلاقة مع ايران، وسبق ان لعب دورا متقدما في تنظيم العلاقة بين دمشق وشيعة لبنان. كما تولى لفترة طويلة ملف العلاقات مع الولايات المتحدة الاميركية، وكان من ضباط الأمن القلائل الذين يسمح لهم بالالتقاء بخبراء من مراكز أبحاث أوروبية ومن الولايات المتحدة الأميركية. ومن المقرر ان يشارك في اعمال هذا المكتب الرئاسي المستحدث وزير الخارجية وليد المعلم وربما ضباط رفيعون، كمثل رئيس اركان الجيش، على ان يكون الارتباط بقصر المهاجرين حيث القرار الاول والاخير، قرار مركزي وحصري لا شراكة جانبية فيه.

السبت، 12 ديسمبر 2009

Sphere: Related Content

الزيارة تحت سهام الموالاة والمعارضة واللوبي اليهودي والمحافظين الجدد

سليمان في واشنطن: طوْقُ اصقاعٍ اربعة!

الموالاة تنتقد والمعارضة تشْتبه والمحافظون يخشون نكسات الاشهر الستة!

ينشر في "الاسبوع العربي" في 21/12/2009

أتاح إستقرار المناخ السياسي المحلي، إثر إكتمال إنتظام المؤسسات الدستورية مع انطلاق عمل حكومة "الانماء والتطوير"، لرئاسة الجمهورية إعادة تفعيل حراك ديبلوماسي دولي، بدأه الرئيس العماد ميشال سليمان بزايرة سريعة لواشنطن، ستُتبع بسسلسة زيارات دولية.

زيارة رئيس الجمهورية لواشنطن هي الأهم من بين كل زياراته الخارجية هذا العام الذي شهد زيارتي دولة الى فرنسا واسبانيا. وهي تعقب زيارة أولى تزامنت مع بدء العد العكسي لولاية الرئيس السابق جورج بوش. كما انها تأتي –وفق مصادر رسمية- في ظل الحراك الإقليمي الدولي الحاصل واستندت الى شقين: سياسي يتعلق بالعلاقات اللبنانية - الأميركية من جوانبها كافة وعملية السلام، وعسكري يتعلق بالمساعدات العسكرية للجيش، في ضوء الأجندة المعدة مسبقا. واوضحت المصادر أن الرئيس سليمان اكد لأوباما رفض لبنان لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، ورفضه أي حل في المنطقة على حساب لبنان، على اعتبار أن لبنان بؤرة متفجرة ولا يجوز فرض حلول تكون على حسابه بما يؤدي إلى تهديد الاستقرار فيه، مذكرا في هذا الإطار بالأثمان الكبيرة التي دفعها لبنان في مواجهته للارهاب وخصوصا في مخيم نهر البارد، حيث سقط للجيش اللبناني فيه 160 شهيدا.

لكن على رغم اهميتها، لم تمرّ الزيارة الاميركية الثانية بيسر، بالإستناد الى موقف بعض حلفاء دمشق في بيروت والحملة التي تعرّض لها رئيس الجمهورية على امتداد الاسبوع الذي سبق السفر في الثاني عشر من كانون الاول (ديسمبر)، تماما كما بالاستناد الى موقف بعض اطراف قوى الرابع عشر من آذار (مارس). والفريقان اللذان عادة ما يختلفان على لون الماء، تقاسما الانتقاد للزيارة الرئاسية، لا بل هي رشقت من نوافذ عدة، بينها اللوبي الاسرائيلي العامل في واشنطن المتمثّل بمنظمة "آيباك" والمحافطون الجدد.

الرئيس ام وزيره الاول؟

لا يبدو بعض حلفاء سوريا مقتنعين بأن الزيارة هي تلبية لدعوة رسمية أميركية. فعلى رغم أنها كذلك في الشكل، إلا أنهم يتحدثون عن دور وزير الدفاع الياس المر بالإعداد لها عبر الطلب من أصدقائه في الإدارة الأميركية توجيه دعوة إلى سليمان. ويقول أحد المترددين إلى دمشق إن توقيت الزيارة غير موفق، لكونها تأتي بعد أسابيع قليلة على المناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين الأميركي والإسرائيلي وخصصت لمحاكاة حرب محتملة على لبنان وسوريا، وتأكيد عدد من جنرالات الجيشين أن المعركة المقبلة بين إسرائيل والمقاومة في لبنان لن تُحسَم لمصلحة الطرف الأول إلا بتدخل أميركي مباشر. ويشير الى أن سليمان يعرف جيداً، منذ أن كان قائدا للجيش، أن سقف المساعدات العسكرية لن يتجاوز تدريب عدد من الضباط والأفراد، وهو ما يتوافر في دول أقل تدخلاً في الشؤون الداخلية اللبنانية من الولايات المتحدة، وأقل عداوة مع جزء أساسي من الشعب اللبناني.

الزيارة والرسالة

ويقول بعض المراقبين ان الزيارة تأتي بعد ايام من الرسالة التي أرسلها 31 عضوا في مجلس النواب الأميركي الى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والتي ترمي الى إلزام الحكومة اللبنانية تطبيق القرارات الدولية ذات الارقام 1559 و1680 و1701. وينظرون الى هذه الرسالة على انها "فاتحة حملة واسعة النطاق، يبدأها مجلسا النواب والشيوخ، لمنع إيران من استخدام "حزب الله" في تصعيد عسكري ضد إسرائيل، لتحويل نظر المجتمع الدولي، عن إصراره على وقف البرنامج النووي الإيراني، والإفراج الفوري عن المئة مليون دولار المخصصة لتسليح الجيش اللبناني، والمئتين وعشرة ملايين دولار، المخصصة للقوة الدولية المعززة، من موازنة السنة المقبلة، كل ذلك من أجل تحقيق الأهداف الاميركية في دعم إجراءات دولية لنزع سلاح "حزب الله"، والتخلص من الأسلحة الإيرانية في لبنان". ويتحدث هؤلاء عن تحضيرات لوفد مشترك من النواب والشيوخ "لزيارة لبنان وسوريا في اوائل السنة المقبلة، لوضع حكومتيهما أمام مسؤولياتهما، لإنهاء ظاهرة "حزب الله" في لبنان، قبل أن يؤدي تعثر المساعي لوقف البرنامج النووي الإيراني، إلى تحويل طهران للاهتمام الدولي عن هذه المسألة، من خلال إصدار أمر (الى حزب الله وحركة حماس) لشن هجمات على إسرائيل، أو إشعال الساحة اللبنانية الهشة".

ويستند المعارضون الى أن النائب الجمهوري الأميركي مارك ستيفن كريك، الذي يقف وراء رسالة الكونغرس إلى كلينتون، سبق ان صرّح ان هذه الرسالة وصلت إلى الرئيس باراك أوباما، ليطرح مضمونها على الرئيس سليمان ويحضه على "اتخاذ إجراءات سريعة، لجمع طاولة الحوار تحت رئاسته، من أجل تحديد أولويات الدولة اللبنانية بوضوح، في مفاوضات تبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها، وتمنع الميليشيات المسلحة من اقتطاع أجزاء من أراضي البلاد، على حساب الشعب والجيش، وإلا فأن استمرار هيمنة "حزب الله" بالقوة على قرارات الدولة، "سوف يشجع أطرافاً إرهابية مماثلة في دول شرق أوسطية أخرى، على انتهاج خطط مماثلة، وهذا ما لن تسمح به الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وكل دول العالم الحر".

ويشير هؤلاء الى أن وفداً من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA يستعد لزيارة لبنان، حاملاً معه تصورات وخطط حول نزع سلاح "حزب الله"، استناداً إلى معطيات جديدة، تفيد أن إسرائيل لن تقبل باستمرار هشاشة الأوضاع على حدودها الشمالية مع لبنان.

طوّق نفسه؟

في المقابل، يعدد قياديون في قوى الرابع عشر من آذار (مارس) عددا من المآخذ التي حدّت حكما من الاندفاعة التي يرميها الرئيس من زياريته الاميركية. فهو استبقها بتطويق نفسه حتى يتجنب تقديم أجوبة عن أسئلة اميركية تتمحور كلها حول سلاح "حزب الله"، من خلال حصر زيارته بمؤسسة السلطة التنفيذية الأميركية، مغفلا مركزية مؤسسات السلطة التشريعية الأميركية وتحديدا في الكونغرس الذي لا يزال يرفض زيادة المساعدة للجيش اللبناني. ويرى هؤلاء ان واشنطن ردّت "إنقباض" جدول الزيارة الرئاسية الى رغبة سليمان في تجنيب نفسه اتخاذ مواقف تتصل بملفي "حزب الله" وإيران، ويكون بذلك قد ابقى علاقاته جيدة مع الإدارة الأميركية وجنّب نفسه وجع الرأس لدى عودته الى بيروت. ويعتقد هؤلاء ان لبنان سيتضرر من هذا "الخواء" الرسمي اللبناني في واشنطن، خصوصا ان تقديرات الادارة الاميركية تشير الى ان الرئيس حيّد نفسه، فيما كان يمكنه التأثير ايجابا في بعض جوانب القرار الاميركي لو فعّل جدول زيارته، الامر الذي من شأنه أن يرفع منسوب تهميش الملف اللبناني في الولايات المتحدة الأميركية.

اللوبي ايضا .. والمحافظون الجدد!؟

اما اللوبي الاسرائيلي فإستبق الزيارة بمقالة تحليلية نشرت في مجلة "أسبوعية يهود واشنطن"، الناطقة غير الرسمية بلسان لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، أعرب فيها الرئيس السابق للشؤون القانونية في المنظمة دوغلاس بلومفيلد، عن امتعاضه من "زيارة سليمان إلى واشنطن ونيته طلب زيادة المساعدة الأميركية للحكومة التي أطلقت العنان لمجموعة إرهابية مسؤولة عن قتل المئات من الأميركيين، وسمحت بشن حرب على إسرائيل"، مشيرا إلى أن "الحكومة اللبنانية اعترفت

بحق "حزب الله" في تحرير الأراضي المحتلة (من إسرائيل)، بالطريقة التي يراها مناسبة".

ويرى ديفيد شينكر، مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في تقدير سياسي – استراتيجي نشره المعهد في التاسع من كانون الاول (ديسمبر) بعنوان "سليمان يجتمع مع أوباما في الوقت الذي يواجه حلفاء واشنطن اللبنانيين أزمة في بلادهم"، ان موضوع التمويل العسكري الأميركي للبنان يسلط الضوء على التطورات الأخيرة في السياسة اللبنانية والتي تشير إلى العودة المجددة لـ "حزب الله"، وداعماه السوري والإيراني، في بيروت. وعلى رغم أن تحالف 14 آذار (مارس) الموالي للغرب كان قد حقق انتصاراً كبيراً في انتخابات حزيران (يونيو) المنصرم، إلا أن الحكومة التي انبثقت بعد ستة أشهر من تلك الإنتخابات تشكل نكسة لواشنطن وحلفائها اللبنانيين. وقد لخص السفير السوري لدى الولايات المتحدة عماد مصطفى اخيرا مدى هذه النكسة – التي تشكلها هذه الحكومة اللبنانية على تحالف 14 آذار (مارس) والولايات المتحدة على حد سواء - حيث قال: "نحن معجبون بها! ... هي بالضبط نوع الحكومة التي نعتقد ينبغي أن تحكم لبنان".

ويعتقد شينكر انه في الأشهر الستة التي مضت منذ فوز تحالف 14 آذار (مارس) في الإنتخابات البرلمانية، تحول الزخم في الحياة السياسية اللبنانية مرة أخرى لمصلحة "حزب الله" وحلفائه. وسيتأرجح ذلك حتى بصورة أكثر في هذا الإتجاه في أعقاب زيارتي (سعد) الحريري و(وليد) جنبلاط إلى دمشق. وفي حين يعزز "حزب الله" مكاسبه السياسية، يقال انه يحسن أيضاً قدراته العسكرية. وعلى الرغم من قيام إسرائيل في تشرين الثاني (نوفمبر) باعتراض السفينة "فرانكوب" - التي حاولت نقل نحو 500 طن من الأسلحة إلى "حزب الله" عبر سوريا- هناك اعتقاد واسع النطاق أن الميليشيات الشيعية قد حصلت على منظومات صواريخ روسية متقدمة من نوع "ستريلتس أس إي 24"، الحاملة لصواريخ "إيغلا أس"، وهي أسلحة مضادة للطائرات. وتعتبر إسرائيل هذه "المانبادز" (نظم الدفاع الجوي المحمولة يدوياً) بأنها "ستغير اللعبة".

وبعد أربع اعوام من قيام "ثورة الأرز"، من الواضح بشكل متزايد أن سوريا وحلفاءها قد استعادوا اليد الطولى في لبنان. ويبدو أن إدارة أوباما لم تفعل شيئاً يُذكر حتى الآن لوقف المد، ولكن بالنظر إلى المخاطر، يجب على واشنطن التحرك بسرعة لعكس هذا الاتجاه.

ويخلص شينكر الى ان "على واشنطن والمملكة العربية السعودية أن تتفقا على طريقة حل المشكلة"، مع اشارته الى ان "تحسين العلاقات مع دمشق - على حساب بيروت- لن يعزل الرياض من التهديد الإيراني وسيأتي بنتائج عكسية. لذا ينبغي على الإدارة الأميركية أن تحاول أيضاً إعادة تنشيط قيام الأمم المتحدة بمناقشة قرار مجلس الأمن رقم 1701، للفت الإنتباه إلى عدم الاستقرار المستمر المتعلق بنقل الأسلحة إلى الميليشيات الشيعية. وفي الوقت نفسه، ينبغي على واشنطن أن تسلط الضوء بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين - وخصوصا بريطانيا العظمى – على لائحة الاتهام من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، ضد عضو اللجنة السياسية لـ "حزب الله" حسن حدرج المتهم بشراء أسلحة بإسم الميليشيا، وإن ألقاء القبض على حدرج ينبغي أن يؤدي وبصورة دائمية إلى وضع حد للرواية القائلة ان حزب الله مقسّم إلى أجنحة سياسية وعسكرية".

ويرى شينكر ان "على واشنطن أن توضح لدمشق أن استمرار التدخل السوري في لبنان - ودعم سوريا المستمر لـ "حزب الله" - إضافة إلى تقويض الإستقرار في العراق، سيمنع التقارب بين الولايات المتحدة وسوريا".

السبت، 5 ديسمبر 2009

Sphere: Related Content

الفاتيكان لم يكن غريبا عن التأسيس لزيارة الجنرال ومشاركته في مجلس المطارنة

صفير وعون او مأزق الاشكالية بين الزعامتين الروحية والسياسية

دستور الجماعة المارونية: البطريرك "آمر البلد" يرأس الأمة

بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيا وبمؤازرة الأمراء والمُقدَّمين مدنيا

ينشر في "الاسبوع العربي" في 14/12/2009

ما بين نصر الله صفير، ابن ريفون الريفية، وميشال عون ابن حارة حريك المتضائلة مسيحيا (مساحة وديموغرافية)، مساحات مشتركة من الذاكرة والتاريخ، جلها سلبية، بدءا وليس انتهاء بـ "الهجوم" الشهير (الذي ينكره انصار "التيار الوطني الحر") على الصرح البطريركي والتنكيل بالبطريرك معنويا وجسديا.

الذاكرة عابقة بالكثير مما إعتمل بين البطريرك والجنرال، وهي في جزء منها استعادة تاريخية للعلاقة المتوترة، في معظم مساراتها، بين الزعيم الروحي للكنيسة المارونية والزعيم السياسي (غالبا ما كان يمثل رئيس الجمهورية هذه الزعامة) للجماعة المارونية.

ما بين البطريركية والزعامة، إذاً، إشكالية في علاقة عمرها من عمر الوعي التاريخي للبنان الكبير، وربما ابعد من ذلك الى ملازمتها لولادة الكيان مع الإمارة المعنية، في تلازم صدامي متفجّر مذذاك، "وإلاّ فمَن غير الإكليروس الماروني نظّر لطانيوس شاهين غير المتعلّم، في مواجهة الزعامة السياسية المتمثّلة في الإقطاع يومها"، وفق ما يقول احد المؤرخين.

وحده البطريرك الياس الحويك استطاع اختصار الموقعين، فحلّ بطريركا روحيا وسياسيا للجماعة المارونية بتوكيل عام غير قابل للعزل نجح من خلاله في العام 1920، في ايجاد لبنان الكيان والدولة والجمهورية.

قبل ذلك وبعده، مرورا بالخمسينات زمن كميل شمعون وبولس المعوشي، وصولا الى العام 1986 مع حبرية نصر الله صفير، طغت الازدواجية على الجماعة المارونية التي توزعت بين الزعامتين في "تناتش" متعب ومهلك للجمعة وربما للكيان.

في الاساس، تشكل رئاسة الجمهورية مع البطريركية المارونية إحدى السلطتين اللتين تمثلان المسيحيين في لبنان، وأي خسارة في أحدهما تشكل مفترقا صعبا في تاريخ الكنيسة المارونية.

وعلى رغم هذا الادراك، بقي تنافس الزعامتين على اشدّه، ظاهرا حينا وكامنا أحيانا، وكلاهما يرى ارتباط استمرار الكيان بموقعه ورؤيته.

وأثبت المسار التاريخي صحة قول شارل مالك عن البطريركيّة المارونيّة انّها "مركز روحي فريد في الشرق الأوسط. الكل يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه. بإستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة".

حق التدخل من "كتاب الهدى"!

زادت لغة الازدواجية عنفاً وعداء، مع بدء الحروب المتتالية، حتى حفلت أدبيات التخاطب بين بكركي وزعامات الحرب من المسيحيين بكل أنواع الكلام الكبير. ورافقت عبارة "إطلاع العشب على درج بكركي" معظم العهود الرئاسية، كدلالة على رغبة الزعيم في الاقتصاص من البطريركية وحظرها التعاطي في الشأن السياسي.

واقع الحال ان كلمة "بطريرك" تشتقّ من الجذر اليونانيّ Patriarkis وهي مركّبة من Patria "عِرق" أو "بلد"، ومن Arkin أي "آمر"، فيكون معنى كلمة بطريرك: "آمر البلد". والطّابع المدنيّ الذي اتّصفت به سلطة البطريرك قبل الإسلام وبعده، كان الدّافع الأساسيّ إلى خلق مجموعة قانونيّة خاصّة في الشّرق، تسمّى بالنُومو-قانون Nomocanon نظير "كتاب الهدى" الذي يُرجّح أنّ الكنيسة المارونية قد اعتمدته كشرع خاص لها في مطلع القرون الوسطى، وهو يحوي مجموعة مختلطة من الحق القانوني وبعض القوانين المدنيّة التي حدّدت صلاحيّات رؤساء الدّين الأعلين، مانحة للبطاركة بعض الامتيازات.

يظهر جليا في "كتاب الهدى"، وهو دستور الطائفة المارونية، تبدّل مفهوم أولويّة السلطة الكنسية عموما والبطريركية خصوصا، وتقدمها على السلطة الملكية أو الحاكم السياسي في الشرق المسيحي، منذ مطلع القرون الوسطى على الأقل. كما يتبيّن بوضوح أكبر، حق البطريرك بالتدخل المباشر في سلطة الملك، في حال مخالفة الأخير الشريعة، حتى درجة عزله، اذ من واجبه السهر على العدالة والإيمان والأخلاق داخل الإمبراطورية التّيوقراطيّة.

تبنى الموارنة "كتاب الهدى" كما هو، وبما أنه لم يكن لهم ملك يحكم أمتهم، إذ لم يكونوا جزءا من الإمبراطورية البيزنطية- والإسلامية لاحقا-، كان بطريركهم يرأس الأمة المارونيّة بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيا، وبمؤازرة الأمراء والمُقدَّمين، مدنيا. أما العلاقة بينه وبين الأمراء والمقدّمين في المجتمع الماروني، فكانت أشبه بعلاقة بطريرك القسطنطينية بالإمبراطور البيزنطي. فالمقدّمون كانوا حكّام بعض المقاطعات المارونيّة، يعيّنهم البطريرك، ويمنحهم درجة الشدياقية، وهذا شبيه قياسيا بما كان يفعله بطريرك القسطنطينية عند تتويج الإمبراطور. وكان يحقّ للأمراء والمقدمين الجلوس في الكنيسة بعد الكهنة، كما الإمبراطور عن يمين بطريرك القسطنطينية أمام المذبح. وللبطريرك المارونيّ أيضا، أن يعاقب المقدّم بالحرم الكنسي عندما يستدعي الأمر، كما كان لبطريرك القسطنطينيّة، حق توبيخ الملك إذا خالف الشرائع، وخلْعه من منصبه.

بذرة الاستقلال

من نافل القول أن بذرة لبنان المستقل بذرها البطريرك الحويك في العام 1919 عندما رأس وفدا يضم مسلمين ومسيحيين من أنصار استقلال الكيان، إلى مؤتمر السلام الذي عقد في فرساي، وطلب الاستقلال عن سوريا التي كان الانضمام إليها خيارا آخر لفريق لبناني ثان جله من المسلمين.

وكان الحويك حاضرا يوم أعلن الجنرال غورو المندوب السامي الفرنسي في سوريا دولة لبنان الكبير في الاول من أيلول (سبتمبر) 1920، وشهد أيضا في العام 1926 انتخاب شارل دباس الأرثوذكسي أول رئيس للبنان، واعترض عليه لأنه كان يرى أن منصب رئاسة الجمهورية هو من حق الموارنة، وهو ما تكرس لاحقا.

وخلف الحويك البطريرك أنطون عريضة (1932–1955) وكان اول البطاركة الذي يشهد رسميا استقلال لبنان عن سوريا ونشأة الكيان اللبناني. ومن أبرز ما عرف عن عريضة أنه اعترض في العام 1944 على بعض ما جاء في "بروتوكول الإسكندرية" الذي كان يمهد لتأسيس الجامعة العربية، ورأى فيه توجها نحو "الوحدة التامة اقتصاديا وسياسيا" ما "يضيع حق لبنان في الاستقلال".

ومع حبرية بولس المعوشي (1955–1975)، أظهرت الكنيسة المارونية مواقف سياسية مباشرة حيال بعض القضايا، حيث وقف المعوشي ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان متخوفا من الإطار الوحدوي الذي جمع مصر وسوريا، حتى ان بعض مؤيدي شمعون أطلقوا على المعوشي "بطريرك المسلمين"، "ومحمد المعوشي" لتلاقي موقفه الإيجابي من الوحدة مع موقف المسلمين. كما عارض المعوشي اتفاق القاهرة في العام 1969 الذي منح حرية التحرّك للمنظمات الفلسطينية في لبنان، بسبب "البنود ‏العسكرية" التي تضمنها والتي كانت بالفعل شرارة تراكم الترسبات والتناقضات لاتي ادت بعد ستة اعوام الى اندلاع الحرب اللبنانية.

وللمفارقة رحل المعوشي قبل الحرب بشهرين، ليخلفه أنطونيوس خريش (1975–1986) بطريركا جديدا للموارنة، عايش الحرب من بدايتها ولم يلعب دورا سياسيا رئيسيا ما خلا بعض المحاولات لإصلاح الود المسيحي الممزق والذي فرقته الخيارات المتضاربة في هوية لبنان ودوره في محيطه، الى ان استقال من منصبه لتقدمه في السن قبل نهاية الحرب، وحلّ نصر الله صفير خلفا له (1986).

وكثيرا ما شبه المراقبون نصر الله صفير ببولس المعوشي، بسبب تدخله المباشر في المسائل السياسية التي واجهت الجماعة المارونية، بدءا من موافقته على اتفاق الطائف، مرورا بنداء السيادة في العام 2000 ومن ثم رعايته "لقاء قرنة شهوان"، وليس انتهاء بالازمة التي تلت اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.

أسباب الإشكالية

تتنوع التحليلات والمقاربات لاسباب الاشكالية بين البطريرك والجنرال: يرى بعضهم انها من ضمن أثمان الحرية المسيحية، او في سياق جدلية الديني والدنيوي، او حتى من ضمن ثنائية التنظيم الكياني للأقليات الشرق أوسطية، التي واجهت مركزية السلطة السنّية في "دار الإسلام"، وفق فؤاد إسحق الخوري، في بحثه "إمامة الشهيد وإمامة البطل". اما البعض الآخر فيردها الى نقص في الكيمياء بينهما، زادها حدة اعتبار عون ان صفير كان احد اسباب عدم تمكّنه في اعتلاء كرسي بعبدا بين العامين 1988 و1989 ومن ثم تغطية البطريكية اتفاق الطائف وانهاء زعامة عون في بعبدا، قفزاً الى ازمة الرئاسة بين العامين 2007 و2008.

فمع الطائف ووسط الفراغ الرئاسي، تحوّلت الثنائية انقساما بين زعامة سياسية انتهجت شعارات التحرير وتوسّل كل الوسائل في هذا السبيل بما فيها معاداة كل العالم، وزعامة روحية ترى ان خلاص المسيحيين يكمن في الانصراف عن الحروب والتفاعل مع تسويات الخارج، ومنه الطائف برعاية سورية – سعودية وبحضانة اميركية.

غير ان الرعاية التي اتت برينيه معوض رئيسا للجمهورية الثانية ما لبث ان تحوّلت عرجاء اثر اغتيال اول شهداء وثيقة الوفاق الوطني، لتتسارع الاحداث دراماتيكيا وبما لم تكن لبكركي حول به او دراية: الياس الهراوي فضوء اخضر للجيش السوري بـ "انهاء حالة عون"، ثم تلزيم لبنان الى سوريا بإرادة اميركية فرضتها موجبات حرب العراق في آب (اغسطس) 1990.

أسقطت هذه الدراماتيكية كل الوعود والعهود والالتزامات، وانتهى الأمر إلى 14 عاماً من الهزائم المتوالدة والمتراكمة، حقيقةٌ ادركتها البطريركية والزعامة، لو متأخرا!

المسار الجديد؟

يؤمل ان يشكل اللقاء الاخير بالبطريرك والجنرال في بكركي في الثاني من كانون الاول (ديسمبر)، نهاية للازدواجية الحادة بين الرجلين وبداية لتنظيم العلاقة بينهما، لو في السياق العام للعلاقة المتذبذبة بين الزعامتين.

البعض يرى ان اللقاء مرشح لأن يؤسس لإستدامة في العلاقة، خصوصا انه ارتكز على مسار عام لم يكن الفاتيكان غريبا عنه، مع تعدد الزيارات العونية الى الحاضرة، انتهاء بالزيارة (لم تكن الاولى) التي تردد ان وزير الطاقة جبران باسيل قام بها الخميس في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث قابل على رأس وفد، كرادلة واساقفة في الكرسي الرسولي، في مقدمهم الرجل الثاني في الفاتيكان سكرتير الدولة الكاردينال تارسيسيو برتوني ووزير خارجية الفاتيكان جان لوي توران، وتمّ البحث في مجمل الأمور العائدة الى الكنيسة المارونية وترتيبات لقاء عون وصفير.

عاد باسيل الأحد في التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، منهيا استشارات استمرت نحو شهر مع الكرسي الرسولي، سهّلت السبيل للنائب ابراهيم كنعان في مكوكيته بين الرابية وبكركي، وأثمرت انضمام عون الى مجلس المطارنة الموارنة برئاسة صفير في الثاني من كانون الاول (ديسمبر).