الاثنين، 31 أغسطس 2009

Sphere: Related Content
في بلاد الحنين الى امجاد بني عثمان والاصرار على لعب دور اقليمي مركزي
انطباعات من اسطنبول عن السلام والحكومة والمحكمة
اهتمام تركي بأدق التفاصيل اللبنانية من الانعطافات الى الامن

ينشر في "الاسبوع العربي" في 7/9/2009

اسطنبول -
لا يشعر زائر تركيا، هذه الايام، بغربة الابتعاد عن الضجيج السياسي اللبناني بمتفرعاته وجزئياته، ذلك ان انقرة تتابع عن قرب التطورات اللبنانية، حتى يخال المرء انه في قلب بيروت يعيش دقائقها لحظة بلحظة وتصريحا بتصريح وجدلا بجدل. لكن الاهتمام التركي اساسا يبقى في اتجاهين: استئناف المسار السلمي، والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان وكل ما يرتبط بها من إعادة تموضع وانقلابات وانعطافات واستشرافات.
تستعد تركيا هذه الايام لختام موسم صيفي - سياسي لافت عززت في خلاله حضورها الديبلوماسي على مستوى الاقليم لاعبا رئيسا في سياق المثلث الشرق اوسطي الذي يضمها – كتقاطع الضرورة والحاجة- الى طهران وتل ابيب.
احد خواتيم هذا الموسم اللافت تجلى في الزيارة التي قام بها في التاسع والعشرين من آب (اغسطس) الامين العام لحلف شمال الاطلسي (الرئيس السابق لوزراء الدانمارك) أندرس فوغ راسموسين، وهي زيارة تعتبرها انقرة نصرا ديبلوماسيا لها على مستوى سياستها الخارجية، نظرا الى انها سبق ان اشترطت اعتذارا صريحا من الرجل قبل استقباله، وذلك على خلفية ازمة الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة التي تسببت بها الصحف الدانماركية قبل 4 اعوام. واختار راسموسين الاعتذار من خلال مشاركة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في مأدبة افطار، علما ان تركيا هي الدولة المسلمة الوحيدة من بين أعضاء الحلف الاطلسي.
تبدو تركيا رجب طيب اردوغان مزيجا من دولة اوروبية عصرية عاصمتها انقرة وكيان تاريخي مشدود الى ايام غابرة كانت فيه اسطنبول العثمانية احدى عواصم الامبراطوريات الاعظم، ويسمع زائرها كلاما -تردادا - عن اعوام ثلاثمئة وخمسين "حكمت فيها العالم بالعدل والعدالة"، وعن عظمة سلاطينها وقدرتهم على الاستنباط والحكم والتبصّر.
قلق
يلمس زائر اسطنبول هذه الايام قلقا تركيا رسميا حيال ما يكتنف الاقليم المتوسطي من ضبابية على مستوى المراجعات الدولية، يزيدها غموضا عدم اتضاح الموقف الاميركي من ملفات اساسية في المنطقة، وخصوصا على مستوى مثلث لبنان وفلسطين والعراق، ذلك ان واشنطن التي تقدّم مسألة خروجها من العراق بأقل الخسائر السياسية الممكنة على كل اولويات اخرى، لم تحسم بعد مقاربتها للملفات للعناوين المرتبطة بما فيها علاقتها بدمشق، على رغم التحسّن المطّرد في هذه العلاقة والتي باشره الرئيس الاميركي باراك اوباما تأسيسا على تقرير بيكر – هاملتون الشهير الذي اسدل الستار على كل سياسات عهد الرئيس السابق جورج بوش.
ويبدو ملف استئناف محادثات التسوية الاسرائيلية - العربية في صلب الاهتمامات التركية، لذلك
ينتظر المسؤولون في انقرة زيارة مرتقبة للمنطقة يحضّر لها المبعوث الاميركي لعملية السلام جورج ميتشل، وهي مقررة مبدئيا في النصف الاول من أيلول (سبتمبر)، في مهمة ترمي الى خلق المناخ الايجابي المطلوب لدفع عملية السلام او التسوية السلمية قدما ورفدها بما تحتاج من منشطات ومضادات حيوية تقيها التعثّر الذي طبع الاعوام الاخيرة، وتحديدا منذ مبادرة السلام العربية في قمة بيروت في العام 2001.
ويعوّل هؤلاء على مؤتمر السلام الدولي المزمع التحضير له وعقده قبل نهاية السنة 2010، ليكون مكملا لمؤتمر مدريد في العام 1991، لكن بنسخة مزيدة ومنقحة تقدّم جديدا عمليا على هذا المستوى، وهو امر يفقده هذا المسار.
الحكومة المتعثّرة
ولا يخفي المسؤولون الاتراك قلقهم من تعثّر تقدم المسار السياسي اللبناني، بفعل عدم القدرة على انتاج حكومة ائتلافية تنظر اليها انقرة على انها حجر الزاوية في السنوات الخمس من عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، كما ان انقرة معنية بنجاح تشكيل حكومة لبنانية ستحسم قرارها بالمشاركة في مؤتمر السلام الدولي، انطلاقا من ان موقف لبنان من تحريك عملية السلام يشكل اول التحديات التي ستواجه الحكومة الجديدة، تأسيسا على التقدّم الذي حققته الوساطة التركية بين سوريا واسرائيل.
لذلك يلحّ المسؤولون الاتراك على اهمية انجاز الاستحقاق الحكومي بقدر عال من المسؤولية، حتى تستطيع الحكومة وضع لبنان على المسار السياسي السليم اقليميا ودوليا، وهو مسار سيتقدم الاجندة المحلية على رغم اهمية باقي العناوين، وخصوصا منها ذات الطابع المحلي (معالجة الازمة الاقتصادية والاجتماعية...).
وسبق لوزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو في زيارته الاخيرة لبيروت في الثلاثين من تموز (يوليو) الفائت، ان سعى الى جس النبض اللبناني بالنسبة الى إمكان استئناف التفاوض على المسار اللبناني - الإسرائيلي، في إطار عملية سلام شاملة، مشددا على انه لا بد من الشمولية على رغم وجود تحرك من أجل المسار السوري - الإسرائيلي. وصارح اوغلو المسؤولين ان كل الاحتمالات ممكنة لاستئناف التسوية، وان المحاولات تتطلب من الدول المعنية التفكير في ما يمكن ان تتخذه من مواقف متصلة بالدعوة الى مؤتمر سلمي على غرار مدريد، في مرحلة غير بعيدة.
المحكمة ايضا
ولا يفوت المسؤولون الاتراك متابعة ادق التفاصيل اللبنانية الكبيرة منها والصغيرة، بدءا بشكل الحكومة الائتلافية وصولا الى المطالب المختلفة ودقائق التشكيل والعثرات ومشاكل التوزير والاستيزار وتوزيع الحقائب، لكن اكثر ما يتوقفون عنده بعد العنوان الحكومي، هو مسألة المحكمة الدولية الخاصة للبنان، في ضوء التقارير الكثيرة الواردة من بيروت، ولا سيما "الضجيج" اللبناني عن قرب صدور شيئ ما عن المحكمة الدولية (قرار ظني او استدعاءات)، في حين ذهبت تقارير اخرى الى تحديد تشرين الاول (اكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) موعدا مبدئيا لكن غير نهائي لصدور التقرير الظني عن المدعي العام الدولي القاضي دانيال بلمار الذي يستعد في غضون ايام الى استئناف نشاطه بعد فترة قسرية امضاها في كندا للعلاج.
ويلمس الزائر ان انقرة تقارب هذا الملف بحذر شديد، نظرا الى ان هذه المحكمة هي اولا وقبل كل شيئ، تجربة فريدة على المستوى العالمي، اذ لم يسبق ان انشأ المجتمع الدولي محكمة كي تحاكم قتلة مجهولين لشخصية سياسية معروفة وذائعة الصيت، فيما اقتصرت التجارب السابقة على نوع واحد من المحاكم الدولية لمعاقبة مرتكبي جرائم ابادة جماعية. لذا ان نجاح هذه التجربة بعيدا من اي تسييس يؤهلها كي تعمم نسبيا في عالم ما بات يعرف بعصر نهاية الافلات من العقاب والعدالة، علما انه في السياسة الدولية ثمة اربعة انواع متعارف عليها:
1-المحاكم المنشأة باتفاق دولي: محكمة نورنبرغ ومحكمة طوكيو.
2-المحاكم المنشأة باتفاق تعاون بين الدولة والامم المتحدة: محكمة كمبوديا ومحكمة سيراليون.
3-المحاكم المنشأة بقرار من مجلس الامن: محاكم رواندا ويوغسلافيا السابقة.
4-المحكمة المنشأة باتفاقية روما: المحكمة الجنائية الدولية.
الانعطافات
وينظر المسؤولون الاتراك بإهتمام الى التحولات السياسية اللبنانية، وخصوصا الانعطافة التي سجلها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط على خلفية المحكمة ذات الطابع الدولي تحديدا، وهم يقرأون بتمعّن احتسابه التطورات والتوترات التي يمكن ان تكون المحكمة احد مسبباتها، "من جراء التغيير الذي طرأ على مسار المحكمة وتحول وجهة الاتهام من اتهامات سياسية في حق سوريا الى اتهامات قضائية في حق "حزب الله" يمكن ان تصدر عن المحكمة الدولية وان تعكس أجواء تقرير مجلة "دير شبيغل". ويرون ان هذا القلق سبب رئيس من أسباب الحركة السياسية الوقائية التي يقوم بها جنبلاط تحسبا لمخاطر فعلية يريد ان تظل طائفته في منأى عنها.
وعلى رغم ذلك، هناك اعتقاد اقرب الى اليقين بأن المحاولات التي يقوم بها جنبلاط في عقد لقاءات توفيقية، واستعداد الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لزيارة سوريا بعد انجاز التشكيل وتخطيه مرحلة العام 2005 بكل مفاعيلها وتداعياتها، لا تلغي واقع ان ارتدادات القرار الظني لن تكون سهلة على لبنان.
تأسيسا على ذلك، تحضّ انقرة على ضرورة الاسراع في ملء الاستحقاقات الدستورية كي تتمكن الدولة بمؤسساتها وشرعياتها السياسية من بدء الاعداد الى مرحلة جديدة على مستوى الامن القومي اللبناني، قد تحمل المزيد من التحديات ومن المس بالاستقرار وبالتوازنات، وهو امر يفترض تصليب الوضع الداخلي وتحصين الوحدة والخروج بسياسة رسمية واضحة وجلية.


الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

Sphere: Related Content
المساحة المسيحية متنفّس واقعي وضروري وسط وابل الاحتقان
عزل الكتائب ووليدتها: عود على بدء الحرب!
الكتائب والقوات تتنافسان وتستقطبان تحت مظلة ثوابتهما


ينشر في "الاسبوع العربي" في 24/8/2009
منذ خطاب وليد جنبلاط في البوريفاج في الثاني من آب (اغسطس)، والحراك السياسي في ذروة لافتة على مستوى الاحزاب والتيارات، ينذر بمزيد من البهلونيات والانعطافات... وربما الانقلابات. لكن المسرح الرئيس يبقى المساحة المسيحية الحزبية التي هي في حراك دائم، والتي تبقى المتنفس لكل وابل الاحتقان اللبناني والخارجي.
في ذاكرة كثر من المسيحيين، كما المسلمين، وسط جدلية الحكومة العتيدة والانقلابات والانعطافات والاستقراءات، استعادة معركة عزل حزب الكتائب في العام 1975 والتي فتحت الباب أمامه كي يخرج من لدنه رئيسين للجمهورية، موظفا شعار عزله خير توظيف، ليتكئ عليه نهاية السبعينات كي يصبح الحزب المسيحي الاكثر عديدا وتمثيلا وقدرة على الحشد والاستقطاب.
في احد مراجعاته قبل استشهاده بأشهر، يعترف الأمين العام السابق حزب الشيوعي جورج حاوي انه هو من طرح هذا الشعار الذي ادى في حينه الى الالتفاف المسحي حول الحزب الواقف اقصى اليمين، وتاليا الى استعار الحرب وتمددها خمسة عشر عاما عبثية.
قال حاوي في استعادة ذكريات الحرب: "الرد على الاستفزاز (العسكري والامني الكتائبي) كان يجب أن يكون رداً سياسياً (عبر) عزل حزب الكتائب من الحكومة. كان حزب الكتائب مشاركا في الحكومة، وانا طرحت شعارا سياسيا لمعالجة استفزاز أمني عسكري، ولكن لسنا دائماً أصحاب القرار في تطور الصراع، أخذ بشعار عزل الكتائب، وصدر بيان عن المجتمعين (الاحزاب الوطنية) بقيادة كمال جنبلاط مطالبا بعزل حزب الكتائب ومحاكمته، مستنكرا الاستفزاز، وعدم وجود سلطة تستطيع أن تعالج الوضع مباشرة.. فـ "فَلِتَ الملأ" في الشارع (...) واشتعلت الأحداث عسكرياً بدلاً من أن تأخذ منحى صراع سياسي، فاستخدم شعار عزل الكتائب سياسياً إلى شعار تغطية للحرب الأهلية".
تُستمد هذه الاستعارة التاريخية، من تلمّس بعض الشارع المسيحي وجود رغبة في استعادة هذا العزل، انما في حق "القوات اللبنانية، وليدة حزب الكتائب، وتلك التي وظّفت شعار العزل لـ "تلتهم" الوجدان المسيحي نهاية السبعينات، فستقيم على العرش المسيحي بتوحيد البندقية والسياسة والاقتصاد وكل نواحي حياة البيروتيين الشرقيين.
اول المستعيدين
كان وليد جنبلاط اول المستعيدين لهذه الواقعة التاريخية، قبل خطاب البوريفاج بأشهر، وذريعته الامتعاض من "عودة نغمة الانعزالية" في خطابي الكتائب و"القوات اللبنانية"، هذه العودة التي "صادفها" جنبلاط اثناء حضوره احد الاحتفالات الكتائبية الحزبية، والذي تخلله عرض لفيلم وثاقي رأى فيه تعرّضا لذكرى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وانطلقت في ضوء هذه التحفظات الجنبلاطية، شخصيات في المعارضة لتروّج الى عزل سياسي للحزبين، او لاحدهما من خلا استمالة الثاني، على طريقة جورج حاوي، انما من منطلقات مختلفة ترتكز على ادوات وخطاب مستحدث، صلبها المسألة الفلسطينية والعروبة!
في حينه، قال نائب رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" جورج عدوان ان القوات ملتزمة القضية الفلسطينية وتعتبر اسرائيل دولة عدوة ،مشيراً الى ان هناك من يريد عزل القوات وخصوصا بعد التحركات الجديد في اتجاه سوريا.
وعلّق المستشار السياسي لرئيس حزب الكتائب، سجعان القزي، بأن جنبلاط "لم يعلن في البوريفاج إنسحابه من 14 آذار (مارس)، بل أعلن عن رغبته في سحب الكتائب والقوات اللبنانية من هذا التجمع تحت ستار اليمين واليسار"، محذراً إياه من "العودة الى إتجاه عزل الكتائب فيما هو نفسه معزول اليوم وستدخله مواقفه المتناقضة قريبا جدا مرحلة افول سياسي". وابدى أسفه لأن تكون الجنبلاطية "لا تطيق التعامل مع المسيحيين الأقوياء، لا على صعيد رئاسة الجمهورية او قيادة الجيش او كرسي بكركي او الأحزاب المسيحية إلا اذا اضطرت بداعي الخشية او بناء على نصيحة خارجية". وأكد ان "الأحزاب المسيحية مصممة على تعزيز إنتشارها في الجبل، وان الضمانة الأساسية للوجود الدرزي في الشوف وعاليه هو الحضور المسيحي الحر، ولا داعي لوليد جنبلاط ان يتعالى على المسيحيين بالعودة الى الجبل وهو الاحوج اليهم".
اذن، هو الجبل مسرح الثنائية المسيحية - الدرزية والتي تختصر حينا بثنائية كمال وكميل، ومساحة كل المواجهات، منذ القائمقاميتين فالمتصرفية، ثم لبنان الكبير وصولا الى الحرب فالسلم الضائع.
كبش محرقة من جديد
في اعتقاد اهل القوات اللبنانية، انها ليست المرة الاولى التي يهوّل فيها على الكتائب ووليدتها بجعلها كبش محرقة نتيجة التغيرات السياسية الدراماتيكية الراهنة. ويتحدثون عن "التهويل الكبير الذي يمارس تحديدا على "القوات اللبنانية" التي تشكل راهنا قوة الرفض الأساسية في قوى الرابع عشر من آذار (مارس) لعدم عودة السيطرة من جديد على القرار السياسي الحر"، في اشارة الى الاتهامات التي وجّهها رئيس تيار "التوحيد" وئام وهاب عن انشاء القوات خلايا امنية.
ويقولون: "ثمة محاولة لتضليل الرأي العام اللبناني، ومحاولة لعزل "القوات اللبنانية" تمهيدا لإضعاف الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري وفرض الشروط عليه لكن هذا الامر لن يمر ولن يحصل لأن تضامننا لا غبار عليه ونحن نعي تماما ما يحصل. لم يتمكنوا من أخذنا بالجملة ولن يتمكنوا من أخذنا بالمفرق".
ويعتبر اهل القوات ان سياسة عزلها لن تؤدي إلى نتيجة لأنها باتت محصّنة في الاعوام الفائتة بالقوى الوطنية عموما، وبمجتمعها المسيحي خصوصا، وهي أصبحت منصهرة في النسيج اللبناني، وتاليا لم تعد معزولة، لا محلياً ولا عربياً ولا دولياً، كما أن قيادتها اعادت صوغ خطاب سياسي – حزبي متماسك اكسبها موظئ قدم في اكثر من عاصمة عربية وغربية، وهو الامر الذي لم يكن متوافرا عندم غدر بالقوات في بداية التسعينات، يوم دُفّعت ثمن موقفها المتمسك بالمؤسسية وبثوابت دولة اتفاق الطائف.
الفصل بين التوأم
ويشتبه اهل القوت اللبنانية بمحاولة للفصل بين الحزبين - التوأمين اللذين يشكلان راهنا القوة المسيحية الثانية في مواجهة "التيار الوطني الحر"، من خلال الايحاء بأن حزب الكتائب مستعد للخروج من تحالف الرابع عشر من آذار (مارس) الى حال وسطية نسيبة لحال الهيولى التي ينزل فيها راهنا ولد جنبلاط. ويقول هؤلاء: يسرّب، لهذا الغرض، ان الرئيس امين الجميل التقى مبعوثين سوريين وهو في طور استعادة علاقته بالقيادة في دمشق، وان ثمن هذه الاستعادة لا بد ان يكون قريبا من الثمن الذي دفعه جنبلاط، اي الانفصال عن تحالف الرابع عشر من آذار (مارس). في حين ان حقيقة الامر مغايرة لكل هذا التسريب، فالكتائب باقية في صلب ثورة الارز ومبادئها، وان تمايزت في مقاربة التغيرات الحاصلة لبنانيا وخارجيا.
ويستبعد اهل القوات ان يزور الرئيس الجميل دمشق لاسباب تنافسية في الوسط المسيحي مع الدكتور سمير جعجع، ذلك ان الرجلين يقرآن في كتاب واحد، والاثنان يدركان حجم المخاطر والتحديات التي تنتظر المسيحيين، وهما لا يمكنان ان يضيعا البوصلة في ما خص المصلحة العليا للمسيحيين في البقاء متعاضدين ومتضامنين، تحت مظلة التنافس الحزبي. وهما استطاعا التكيّف مع متطلبات هذا التنافس، بما فيها القدرة على الاستقطاب من ضمن الثوابت التي اختطاها منذ العام 2005، وهي تقوم على ان التنافس حيوي للحزبين ولقواعدهما على حد سواء، وهو عامل رئيس في عوامل الانتشار والاستقطاب.
من متعددة الى ثنائية
وكانت سرت في بعض الاوساط ان ثمة خطة عمل لدى المعارضة للمرحلة المقبلة تركّز على انهاء هذا التحالف وتحويله حلفا ثنائيا لا أكثر، يضم من تيار "المستقبل"، ومن جانب آخر "القوات اللبنانية".
وتنطلق المعارضة في تصورها هذا من أن القوى الاقليمية والدولية التي رعت حركة 14 آذار (مارس) لم تعد تحتاج اليها بعدما أدت اغراضها. وقد أدرك جنبلاط ذلك، فغادرها على عجل. وهناك شخصيات وقوى اخرى ستتبعه على الطريق الى دمشق.
وتضيف الرواية ان الرئيس الجميل ليس بعيدا من خيار الابتعاد، بدليل حركة الرسائل الناشطة من خلال الوزير السابق وئام وهاب وغيره من الشخصيات. كما ان الحزب ابتعد منذ فترة عن حضور اجتماعات الامانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار (مارس)، في حين يتمايز سامي الجميل في مقاربته العلاقة مع مسيحيي المعارضة، مما انتج ورقة سياسية مشتركة مع تيار "المردة"، ولقاءات على مستويات قيادية مع "التيار الوطني الحر". كما يلقى خطاب الجميل الابن قبولا حتى في اوساط عتات المعارضين.


السبت، 8 أغسطس 2009

Sphere: Related Content
انتقل الى "الهيولى" من دون ان يسقط عقده مع الحريري
جنبلاط او ستّون "روح الفولاذ" وهاجسا فؤاد وكمال!
النسب السياسي مع زعيم المختارة مكلف.. كما الخصام معه

ينشر في "الاسبوع العربي" في 17/8/2009
قدَرُ انسباء وليد جنبلاط وحلفائه (الموقتين) وخصومه (الموقتين ايضا)، ان يدفعوا ثمن موقفه مرتين: مرة لمصادقتهم واخرى لمعاداتهم... تماما كالمثل الشعبي عن المنشار الذي يأكل في "الطالع" ويأكل في "النازل".
تعود الأسرة الجنبلاطية الى أصول كردية، ويُعتقد ان اجدادها قدموا من كردستان إلى لبنان في العهود الأيوبية. تنتسب هذه الأسرة إلى الأمير جان بولارد بن قاسم بك بن احمد بك بن جمال بك بن عرب بك بن مندك الأيوبي الكردي، المنحدر من عشائر الأيوبيين الكرد، وكان يعرف بإبن عربي. وجنبلاط باللغة الكردية هو جان- بولات، ومعنى جان الروح وبولاد الفولاذ، فيكون معنى جان - بولاد الروح الحديدية او الفولاذية.
في الذاكرة التاريخية للاكراد ان الاسرة الجانبلاطية توارثت الحكم من قديم الزمن في كلس، وكان عميد الاسرة الامير حسن نصّبه الصدر الاعظم واليا لحلب. ولما توجه الصدر الاعظم لغزو البلاد الايرانية تحجج بكثير من الحجج والاعذار وامتنع عن الذهاب الى الحرب الايرانية، فحقد عليه الصدر الاعظم واسره في صدره، ولما عاد من ايران بعد هزيمة تبريز ارسل في طلبه وقتله. ولما وصل خبر وفاة الامير حسن الى اخيه الامير علي ذهب الاخير ومعه جيش من الجنبلاطيين الى حلب، فأعلن فيها ثورته على الحكومة العثمانية ثم زحف على طرابلس الشام واستولى عليها وعلى قراها وسكّ النقود بإسمه، وكانت خطب الجوامع تمدحه، وتكوّن لديه جيش كبير مستقل عن الجيش العثماني. وعُرف عن الجانبلاطيين انهم رجال صلب في المعركة لا يخافون ويثأرون للثأر ولا يخافون الموت.
الستون – الهاجس
بلغ وليد جنبلاط، في السابع من آب (اغسطس) الستين العتيّ. ستّون الهواجس والقلق والخوف من محتوم اوقع بجدّه فؤاد والده كمال. الاثنان ماتا قتلا في الستّين. وثمة من يعتقد ان جنبلاط بات يعيش هاجس سن الستين ببلوغه سنّ الاغتيال!
-فؤاد كان قائم مقام منطقة الشوف أيام الحكم العثماني وفي بداية الإنتداب الفرنسي على لبنان. أغتيل في 6 آب (أغسطس) 1921 في وادي عينبال على يدي أحد منافسيه السياسيين، ويُقال على يد احد قطاع الطرق من آل وهاب وهم غير الذين ينتمي إليهم رئيس تيار "التوحيد" وئام وهاب. خلفته في الزعامة الست نظيرة التي أنجبت منه كمال وليندا وبقيت على زعامة العائلة حتى كبر الوريث.
-كمال، زعيم "الحركة الوطنية" في بدايات الحرب وأحد مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن الشخصيات اللبنانية المعروفة بدعمها للقضية الفلسطينية، فإغتيل في دير دوريت في 16 آذار (مارس) 1977، وخلفه في زعامته ابنه وليد.
-اما عمّته ليندا المتزوّجة من الأمير حسن الأطرش، فقُتلت، هي الاخرى، في منزلها في بيروت في 27 ايار (مايو) 1976 قبل أقلّ من عام من اغتيال والده.
الكلفة المزدوجة
النسب السياسي مع وليد جنبلاط مكلف، تماما كما الخصام معه. وما ينسحب على خصومه وحلفائه اللبنانيين ينسحب ايضا على الاميركيين ممن خاصمهم جنبلاط ثم صادقهم ليعاديهم مجددا. فبول وولفوفيتش "الجرثومة" الاميركية التي تمنى لها مقتلا في بغداد، وعصر قلبه دما لخبر نجاته وعدم مصرعه في سقوط قذيفة على الفندق الذي كان يشغله في بدايات الحرب الاميركية على العراق، هو نفسه الذي عاد فتبنى عقيدته المحافظة المتشددة، ومن ثم في زياراته الشهيرة للولايات المتحدة الاميركية. فأعيدت اليه الفيزا بعدما حجبت عنه بقرار رئاسي، وصارت محاضراته في معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى، وهو احد الاذرع الفكرية العقائدية للمحافظين الجدد، "وثيقة" اتكأ عليها هؤلاء ليقولوا بنجاح استراتيجياتهم في الشرق الاوسط.
مهّد وليد جنبلاط لانقلابه الجديد منذ اشهر، وأسْمعَ كل حلفائه هذا التمهيد، وعلى رغم ذلك وقع خطاب البوريفاج (يا للرمزية) وقْع الفأس في الرأس. لم يرد احد من هؤلاء التصديق، لو للحظة، ان جنبلاط قد يعود الى دأبه القديم في التنقّل حيثما يستريح وتستريح آمنةً طائفته. هو اصلا لا يجد عيبا في ان السياسة مصالح لا ثوابت، وانه من الغباء الا يقرأ السياسي المعطيات فيحدد موقعه وخطابه في ضوء كل مستجد. قرأ التغيرات الشرق اوسطية الآتية في العام 2001 على متن الدبابة الاميركية، فإتخذ تموضعه الشهير، لا في اليمين بل في اقصى اليمين. وها هو اليوم يعود الى اقصى اليسار باحثا عن حقوق الفلاحين (!). هذا الظاهر، اما في الباطن فثابتة واحدة لا يحيد عنها، وفي ضوئها يُقرأ حصرا وليد جنبلاط: هو يذهب حيثما يجد الامان والسلام والاستمرارية لطائفته الاقلوية، لا اكثر ولا اقل.
ايقظه السابع من ايار (مايو) 2008 على هذه الثابتة. وجد جماعته في خطر التصادم مع الشيعة، وفي خطر الزوال نتيجة أي تصادم بين السنة والشيعة. واتخذ منذ حينها قرار اعادة التموضع تدريجا وصولا الى الثاني من آب (مايو) في خطاب "بوريفاجي" سيثبت في ذاكرة من والاهم ومن خاصمهم.
عام ونيّف احتاجته الانعطافة، وهي انقلاب فعلي، في التدرّج شيئا فشيئا، لأن الالتزامات كثيرة، وخصوصا مع تيار "المستقبل"، والحاجة كانت ملحة الى العودة الى تطبيع العلاقة مع "حزب الله"، ولاحقا مع دمشق، قبل الاقدام على الخطوة – الانقلاب.
اراد رمزية عودته الى اقصى اليسار والى العروبة وفلسطين واسواق الحميدية بمستوى رمزية خروجه الى اقصى اليمين، فوجد في "البوريفاج" ضالته، و"اخترع" لهذا الغرض جمعية استثنائية لحزبه.
الهيولى او الوسطية الجديدة
لكن في المقابل، من الخطأ تبسيط قراءة الانعطافة الجنبلاطية، والتسليم بالاحتفالات التي ذهبت اليها قوى المعارضة ابتهالا بـ "سقوط اكثرية 14 آذار (مارس)". ذلك ان خلط الاوراق الذي اراده هو وبشّر فيه رئيس البرلمان نبيه بري، لا يعني اطلاقا انتقاله من ضفة سياسية الى اخرى متناقضة، بل هو سيبقى، وربما لزمن طويل نسبيا، في المنزلة ما بين المنزلتين، في الهيولى، الى جانب آخرين، وربما مع الرئيس بري، وان في شكل اقل فجاجة، واكثر سلاسة.
من المبكر، لا بل من المبالغ راهنا الحديث عن سحب جنبلاط نوابه الاحد عشر من تحالف قوى الرابع عشر من (آذار)، لا بل من المبالغ الاعتقاد ان هؤلاء جميعا سيكونون في المنزلة ما بين المنزلتين التي حلّ بها جنبلاط، ذلك ان لبعض هؤلاء هواهم السياسي "اليميني" الذي من الصعب الخروج منه، وتاليا من الصعب ان ينجح زعيم المختارة في تكرار واقتباس صورة كتلة "النضال الوطني" التي تزعمها والده عقودا عدة. كما ان نوابه الحزبيين الذين يلتزمون قراراته لا يزيدون عن خمسة بحكم "الطاعة" الحزبية.
بذل الوسطاء المقربون من قريطم والمختارة جهودا مضاعفة في سبيل توضيح بعض ثنايا الخطاب وتداعياته، وخصوصا لجهة موازين القوى الراهنة في حال تكرّس انتقال جنبلاط الى "المنزلة" المستقلة، ما سيفقد الغالبية اكثريتها النيابية الراجحة.
وحمل الوسطاء الكثير من التوضيحات والتفسيرات، تمحور جوهرها حول ان الاكثرية النيابية لا تزال في صف زعيمها الرئيس المكلف سعد الحريري، وانه لا يمكن الهوان في هذا الصدد، وان التعاون سيبقى مستمرا بصرف النظر عن مواقف البوريفاج.
ثابتان
وثمة من المراقبين من يعتقد ان التفاهم العربي الحاصل امكنه تحقيق ثابتين على المستوى اللبناني طوّقا بعض مفاعيل الانعطافة الجنبلاطية الحادة:
-اولهما، تلافي أي موقف لبناني من شأنه إضعاف الموقع التفاوضي لرئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مع المعنيين بتشكيل الحكومة الجديدة، والعمل على تثبيت السيادة وتدعيم قيام المؤسسات الدستورية بدورها بعيداً من أي تدخلات خارجية من شأنها التأثير سلبا على حرية اللبنانيين وقرارهم المستقل.
-وثانيهما، الحرص على حماية نتائج الإنتخابات النيابية وإبعادها عن تأثيرات الضغوط والتهديدات التي من شأنها خلط أوراق التحالفات بقوة الأمر الواقع وليس بفعل اللعبة الديمقراطية المستندة الى قناعات الفرقاء السياسيين، وليس الى خوفهم من استهدافات أمنية قد يتعرضون لها على المستويين القيادي والشعبي.
ومهما يكن من امر، فإن المراقبين يعتقدون ان الاصطفافات السياسية والنيابية لم تعد على ما ظهرت عليه في الثامن من حزيران (يونيو) الفائت، ذلك ان التصدّع الذي احدثه كلام جنبلاط في بنيان تحالف قوى الرابع عشر من آذار (مارس) لا يمكن القفز فوقه مهما بلغت الوساطات واشتدّت. كما ان اصطفاف قوى 8 آذار (مارس) لن يبقى على ما هو عليه، وان بلغ التحوّل على هذا المستوى مبلغا اقل حدة مما حصل في تحالف 14 آذار (مارس)، انطلاقا من ان الآتي من المتغيرات الاقليمية سيصيب الجميع من دون استثناء، بحيث لا يدْفع او يدفَّع فريق واحد ثمن هذه المتحولات.
Sphere: Related Content
"كيسنجر الشرق الاوسط" يستشرف المقاربة الرسمية لإحتمال استئناف التسوية
اوغلو العثماني في لبنان: حكومة وسلام وطريق الشام
لبنان يشارك في اي مؤتمر للسلام يرتكز على ثوابت مدريد

ينشر في "الاسبوع العربي" في 10/8/2009
قد يكون احد جوانب الدفع الاقليمي – الدولي كي تكتمل عناصر العملية السياسية اللبنانية بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، زحمة الوساطات لاستئناف محادثات التسوية السلمية على المسارات الثلاث اللبنانية والسورية والفلسطينية، دفعة واحدة ومن دون تلكؤ. ويظهر دور انقرة في هذا الصدد، متقدما ولو على نحو باطني، وهو دور تتبعه الديبلوماسية التركية منذ ان أُبرز أحمد داود أوغلو، مستشارا رئيسيا لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ثم وزيرا للخارجية.
احمد داوود اوغلو، الذي لمع وسيطا مفاوضا بين اسرائيل وسوريا ومن ثم بين انقرة واكراد العراق، وكان واحدا من أبرز من ناب عن الحكومة التركية في خلال الدبلوماسية المكوكية للتسوية بين إسرائيل وقطاع غزة في العام 2008، يعتبره البعض "كسينجر الشرق الاوسط الجديد"، فيما قال عنه المدير العام السابق للخارجية الاسرائيلية ألون ليال انه" كان الاكثر اسهاما في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل ابيب عبر دبلوماسيته المكوكية بين البلدين".
وسبق لاوغلو ان كتب "ان قطع تركيا لعلاقات عمرها 500 عام مع الشرق، واتباعها سياسات غربية خلال الخمسين عاما الاخيرة، كان احد اسباب عزلتها و تراجع دورها". وكان لكتابه الشهير "العمق الاستراتيجي" تأثير مهم في اعادة هيكلة السياسة الخارجية التركية، وخصوصا انه تمكن من اخراج بلاده من شرنقة التوجه الى الغرب والتي كادت ان تخنقها، لمصلحة العودة الى الجذوة الشرق اوسطية – الاسلامية، حيث وجدت تركيا ملعبها الفسيح ديبلوماسيا وسياسيا.
ادى اوغلو، في الاعوام الاربعة الفائتة، دورا مركزيا في اعادة التموضع التركي في اتجاه الشرق بعد ما ادارت انقرة ظهرها لعقود عدة متجهة الى الغرب، لكنها فشلت في ولوج الاتحاد الاوروبي وجنّة الـ "شين غين". نظّر اوغلو للمحور الجديد على مستوى الاقليم، محور تل ابيب – انقرة – طهران، واعاد بفاعلية الحراك التركي على مساحة الشرق الاوسط، حتى إتُّهم بهوس الوساطات، اثر وساطاته المنجزة او قيد الانجاز في اكثر من ملف، من بينها التسوية السلمية. وتمكّن من اقناع ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما بأن الدور التركي ليس منافسا بل مكمّل لما تريده واشنطن استئنافا سريعا لمحادثات التسوية، بعد شلل قارب العقد.
الدور المستعاد
يحدد اوغلو دوره في احتمالات استئناف التسوية، من ثوابت "الرؤية الحضارية" وفق نظريتين في جعبته:
-الأولى يعتبر فيها ان "الثقة بالذات الحضارية" مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخصوصا إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر، وهذا هو ما فعله خلال وساطته بين السوريين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين.
-الثانية يقول فيها: كي تكون ناجحا في إدارة العلاقات الدولية يتعين عليك مراعاة "التوازن" الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع من دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، ويمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
العثماني في بيروت
حلّ اوغلو في الثلاثين من تموز (يوليو)، في بيروت ضيفا جديدا على الرأي العام، على رغم انه سبق ان زارها مرارا في السر ولأداء مهمات بعيدة من الاضواء. ونقل عنه في مجلس خاص أن زيارته هذه هي الأولى الرسمية له بصفته وزيراً للخارجية، لكن سبقتها أكثر من 13 زيارة سرية إلى العاصمة اللبنانية، ونحو 34 زيارة سرية إلى العاصمة السورية، بعضها كان من أجل لبنان.
قدّم اوغلو نموذجاً جديداً للديبلوماسية التركية تقوم على اساس المبادرة لا الانتظار ورد الفعل. واساس نجاحه قدرته على زرع الثقة وخلق مناخات من التفاعل، وكان المنظّر للاستراتيجية التركية الجديدة التي أتاحت لانقرة أن تعرف للمرة الاولى منذ عقود ظهور مفكّر استراتيجي على غرار زبيغنيو بريجنسكي في واشنطن، يرسم لتركيا خريطة طريق جديدة تجعل منها قوة إقليمية ودولية فاعلة.
اذن، الديبلوماسي الجديد على الرأي العام، وربما على بعض الساسة، سبق ان ادى مهاما عدة لبلاده بين بيروت ودمشق، ويسعى راهنا الى تأدية وساطة على خطين: بيروت – دمشق (علاقة بعض قادة الموالاة بالعاصمة السورية) وبيروت – تل ابيب، في تقاطع مع وساطته المعلّقة راهنا على خط دمشق – تل ابيب.
اوغلو ليس غريباً عن الواقع اللبناني، فهو محيط بكل تفاصيله وعلى تواصل مع مختلف الاطراف، ورافق المسؤولين الأتراك في زيارتهم بيروت كمخطط وصانع السياسة الخارجية الجديدة لتركيا في الشرق الأوسط والعالم.
اولى تحديات الحكومةأعطت زيارة وزير الخارجية التركي لبيروت، غير المقررة،، أكثر من مؤشر على تقدم الإتصالات التمهيدية التي تولاها الجانب التركي مع كل من سوريا وإسرائيل والفلسطينيين في خصوصا احياء مسارات التسوية.
حرص الوزير التركي في تصريحاته على إبقاء الهدف الأساسي من زيارته إلى لبنان في إطار العموميات. ومع ان المتابعة التركية للمداولات الحكومية اللبنانية لم تكن ظاهرة، فإن الاوساط الدبلوماسية والسياسية توقفت عند تزامن زيارة اوغلو مع العملية السياسية القاضية بتأليف حكومة ببرنامج سياسي وبهدف تثبيت الاستقرار اللبناني كجزء من استقرار المنطقة.
لكن لا يخفى الدور الذي قامت به انقرة مع القيادة السورية للمساعدة في تجاوز ذيول أحداث الاعوام الأربعة الفائتة، وفي تدارك المشاكل القائمة بين بيروت ودمشق، وللتقليل من شأن الاختلاف والاضطراب الذي ساد العلاقات بينهما، اضافة الى الرغبة التركية للاسهام في تحريك المسارين السوري - الاسرائيلي واللبناني - الاسرائيلي، استناداً الى الروابط والعلاقات التي تربط بلاده بالاطراف المعنية.
واتى احتمال مشاركة بيروت في مؤتمر السلام الدولي قبل نهاية السنة 2010، في صلب مهمة اوغلو، باعتبار ان لبنان معني بالمفاوضات تماما كما حصل في مؤتمر مدريد في العام 1991، وبذلك يكون موقف لبنان من تحريك عملية السلام اول التحديات التي ستواجه الحكومة الجديدة، انطلاقا من التقدّم الذي حققته الوساطة التركية بين سوريا واسرائيل.
وتأتي زيارة اوغلو في اطار التحضيرات لمعاودة تحريك عملية السلام في المنطقة عموماً، وعلى المسار اللبناني - الاسرائيلي من ضمنها، وهو نصح للمسؤولين بالجهوز لمواجهة هذا الاستحقاق المفصلي، كي لا يؤدي استمرار الخلاف المحلي في خصوص هذه المسألة الاستراتيجية الى الحاق الضرر بلبنان او ابقائه خارج العملية السلمية.
وتواجه الحكومة الجديدة استحقاق المشاركة في مفاوضات السلام، لا بد من مقاربته.
والملاحظ ان أوغلو حرص في لقاءاته الرسمية على شرح نتائج الإتصالات التي قامت بها تركيا على امتداد المرحلة الفائتة، بغية تقديم دفع لمسار التسوية والتوقعات المنتظرة وتأثيرها على الأوضاع في المنطقة، مع الحرص على سماع وجهة النظر اللبنانية من امكان لتحريك التسوية، إستناداً للواقع اللبناني وتعقيداته المتداخلة والتجارب السابقة، ولا سيما المقاربة الرسمية اللبنانية في ضوء وجود فريق (حزب الله) رافض -عقائديا - لاي منطق تسووي مع اسرائيل.
لا تفاوض بل قرارات دولية
سعى أوغلو الى جس النبض اللبناني بالنسبة الى إمكان استئناف التفاوض على المسار اللبناني - الإسرائيلي، في إطار عملية سلام شاملة، مشدداً على انه لا بد من الشمولية على رغم وجود تحرك من أجل المسار السوري - الإسرائيلي.
وصارح اوغلو المسؤولين ان كل الاحتمالات ممكنة لاستئناف التسوية، وان المحاولات تتطلب من الدول المعنية التفكير في ما يمكن ان تتخذه من مواقف متصلة بالدعوة الى مؤتمر سلمي على غررا مدريد، في مرحلة غير بعيدة.
وكان جواب المسؤولين أن لبنان ليس لديه ما يتفاوض حوله مع إسرائيل، وهناك قرارات دولية واضحة يطلب تنفيذها تنفيذا كاملا، وهذا يعني ان حل المواضيع العالقة مع إسرائيل يكمن في تطبيق هذه القرارات التي رسمت سبل الحل.
وأبلغ الرئيس ميشال سليمان إلى أوغلو أن لبنان يشارك في أي مؤتمر دولي للسلام الشامل والعادل يرتكز على مؤتمر مدريد والضمانات المعطاة وعلى المبادرة العربية للسلام.
وتفيد معطيات ديبلوماسية ان الادارة الامريكية تميل للعمل في الشرق الاوسط في ثلاث قنوات بالتوازي: القناة السورية – الاسرائيلية، القناة الفلسطينية – الاسرائيلية والقناة اللبنانية – الاسرائيلية، فيما كانت الادارات السابقة تفضّل التركيز في كل مرة على قناة واحدة حصرا.
وفي تقدير واشنطن ان القناة اللبنانية - الاسرائيلية يمكن الوصول فيها الى اتفاق بسرعة، ذلك أنه بين الدولتين "لا يوجد خلاف حقيقي"، بل خلافات طفيفة بالنسبة الى الحدود في مزارع شبعا وفي قرية الغجر.