الأحد، 27 سبتمبر 2009

Sphere: Related Content
فكّ التأزم اللبناني مرهون بمجمل مسار الاقليم
هل تكفي ساعتا جدة كي تستقيم الحكومة؟
تذبذب في العلاقة الاميركية – السورية ينسحب سلبا على لبنان؟
التصلّب الايراني ومفاعل قمّ نذيرا حرب!

ينشر في "الاسبوع العربي" في 5/10/2009
قلبت قمة الساعتين في جدّة السعودية بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الاسد، مجمل الصورة النمطية في لبنان، وخصوصا عن مآل الحكومة ومتعلقاتها وتطور مسارها. لكن التفاؤل يبقى نسبيا ومرهونا بمجمل المسار في المنطقة، بدءا وانتهاء بالملف النووي الايراني والعلاقة المتأرجحة بين طهران ومختلف العواصم الاقليمية والغربية. لكن ماذا عن التأرجح في العلاقة بين واشنطن ودمشق، واثره على بيروت؟
حملت الاسابيع الفائتة معطيات متفاوتة عن تطور العلاقة الاميركية – السورية، في ضوء بعض الاحداث والجزيئيات التي شكلت حمّالة اوجه في تفسير سبب التذبذب الحاصل في هذه العلاقة.
من هذه المعطيات، تقرأ اوساط ديبلوماسية الآتي:
1-تأخّر تعيين سفير جديد للولايات المتحدة في سوريا، وهو المركز الشاغر منذ استدعاء السفيرة مارغريت سكوبي في الخامس عشر من شباط (فبراير) 2005، اثر اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. وكانت دمشق قد ضربت شهر تموز (يوليو) موعدا لمجيئ السفير الجديد، فقفل الصيف من غير ان يحلّ طيف السفير في سوق الحميدية، ولا في شارع المنصور في منطقة ابو الرمانة الدمشقية الراقية حيث مقر السفارة، في حين يمارس القائم بالاعمال شارلز (شاك) هانتر مهامه على رأس البعثة منذ تعيينه في آب (اغسطس) الفائت، خلفا للديبلوماسي مايكل كوربين.
تفاوتت المعطيات في شأن تأخر واشنطن في ايفاد سفيرها، على رغم انه سبقت ان اعلنت قبل نحو شهرين ونصف شهر انها عازمة على اتمام هذه الخطوة، في حين يقول بعض التقارير ان واشنطن صرفت راهنا النظر عن هذا التعيين.
2-الحدّ من اندفاعة زيارات رجال الكونغرس والمسؤولين الى دمشق.
3-تجميد الاجتماعات الامنية والاستخبارية المشتركة، وكان آخرها في تموز (يوليو) الفائت، وفي حينه ابلغت دمشق الى واشنطن انها تفضّل انتقال هذه اللقاءات الى مستوى لجنة سياسية تناقش مختلف العناوين لا الشأن الامني – الاستخباري المتعلق حصرا بالعراق.
4-استثناء دمشق من برنامج الزيارة الاخيرة للمبعوث الرئاسي جورج ميتشل الذي سبق ان زارها في تموز (يوليو) الفائت، وهي زيارة تطوّر نقاش واسع في شأنها داخل الاروقة الاميركية.
5-عدم دعوة السفير في واشنطن عماد مصطفى الى الافطار الذي اقامته وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون، على شرف شخصيات من العالمين العربي والاسلامي، في الخامس عشر من آب (اغسطس) الفائت، فيما حضر معظم نظرائه، وخصوصا اللبناني انطوان شديد والسعودي عادل الجبير والفلسطيني معن عريقات. ويؤشر امتناع الخارجية عن دعوة مصطفى الى الافطار التقليدي السنوي، الى تراجع كبير في العلاقة الاميركية - السورية، بعد تحسن اثر انتخاب باراك اوباما رئيسا، حيث تمت دعوة مصطفى الى بعض النشاطات الثقافية، كما حضر مسؤولون اميركيون مناسبات اقامتها السفارة السورية.
6-تثبيت الديبلوماسي، المثير للجدل سورياً، السفير جيفري فيلتمان في مركز رئيسي في وزارة الخارجية (مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الادنى)، على رغم كل الحملات السورية على الرجل، وازكائه لدور متقدم في الملف اللبناني – السوري. وهذا المنصب سبق ان رشحه اليه اوباما شخصيا في الثامن من نيسان (ابريل) الفائت.
7-في الجانب الآخر من الصورة، برز استقبال جيفري فيلتمان، الاثنين في الثامن والعشرين من ايلول، (سبتمبر) نائب وزير الخارجية السورية فيصل المقداد، في زيارة هي الأولى لمسؤول سوري بهذا المستوى منذ العام 2004، في اطار لقاءات شملت مسؤولين آخرين في الإدارة الأميركية.
وقالت مصادر سورية إن المقداد زار واشنطن بناء على دعوة وجهت إليه قبل شهر ونصف شهر، في اطار "متابعة الحوار المستمر الذي بدأته الإدارة الأميركية مع سوريا منذ آذار (مارس) الفائت، حيث سبق لفيلتمان والمسؤول في مجلس الأمن القومي دانييل شابيرو أن زارا سوريا مرتين".
مطبخ القرار الاميركي
لماذا هذا التذبذب في الانفراج الاميركي – السوري؟ وما تداعياته لبنانيا؟
ما يجري في المطبخ الأميركي قبل صدور أي قرار على ‏الصعيدين الداخلي أو الخارجي، ترسم مساره هيئات ومراكز دراسات تسمى بـ "خزانات ‏الفكر" Think Tanks وهي التي تدرس تطبيقاته السياسية ‏والعسكرية والاقتصادية.‏ وداخل هذه الخزانات يقوم باحثون ‏مختصون بجمع المعلومات وإجراء دراسات عميقة تستمد نفقاتها من تبرعات الشركات العابرة للقارات، والطبقة ‏البورجوازية المتحكمة في صناعة القرار ليس على صعيد الولايات ‏المتحدة الاميركي وحسب بل على الصعيد العالمي.‏ ومن الامثلة على «خزانات الفكر» هذه هي "خدمة أبحاث الكونغرس" المعروفة اختصارا بـ CRS، وهي مركز أبحاث تابع لمجلس النواب الأميركي تقدّر ميزانيته السنوية بنحو 100 مليون دولار ويعمل فيه 700 موظف في مختلف القضايا، منهم 450 محللا متخصصا، ونحو 70 متخصصا في قضايا علمية وتكنولوجية. المركز هو الذراع البحثية للكونغرس ويؤمن الأبحاث العملية التي يحتاجها أعضاؤه في اتخاذ القرارات. ولا يوفر أبحاثه للجمهور الأميركي بشكل مباشر بل من طريق طرف ثالثة يقوم بنشر تقاريره كوزارة الخارجية. ويمكن أعضاء الكونغرس تقديمها للجمهور للاستعانة بها في مبادراتهم ومناوراتهم السياسية. ومع ذلك، يجري حجب التقارير التي تمثل إحراجا أمام الجمهور أو المجتمع الدولي.
الصراع في المناطق الاربع
في تقريره السنوي للعام 2008 عن العلاقة الاميركية – السورية الذي صدر في شتاء - ربيع 2009، يشير التقرير الى انه "على رغم ضعف جيشها وضحالة اقتصادها، لا تزال سوريا تلعب دورا في جيوبوليتيكيا الشرق الاوسط. فنظام الاسد يضع يديه في كل واحدة من مناطق الصراع او المقبلة على الصراع الاربع في المنطقة، اي لبنان، واسرائيل - فلسطين، والعراق وايران". ويضيف: "في المشرق، يهدف القادة السوريون الى السيطرة على سياسات لبنان الداخلية، وتم اتهامهم بالتورط في اغتيال اربعة اعضاء في البرلمان (اللبناني) ورئيس الحكومة السابق رفيق الحريري".
وفي الفقرة عن لبنان يقول التقرير: "قاوم نظام الاسد المحاولات الاميركية والفرنسية لدعم حكومة فؤاد السنيورة الموالية للغرب، معتقدا ان في إستطاعته ان يخفف من عاصفة الضغوطات الاميركية مع الوقت". ويتهم التقرير سورية بعرقلة السلام في المنطقة "اذ تقوم احيانا بدور المفسد برعايتها للمسلحين الفلسطينيين وتسهيلها اعادة تسليح حزب الله". ويعتبر ان ابتعاد دمشق عن واشنطن على مدى العقد الفائت، دفع بسوريا الى تعزيز علاقتها مع ايران، بما يشكل "مصدر قلق للاستراتيجيين الاميركيين". ويتحدث عن انقسام بين المحللين الاميركيين بين من يدعو صانعي السياسة الاميركيين الى "جذب زعماء سوريا بعيدا من ايران"، وبين من يعتقد ان على الادارة ان "تذهب ابعد مما هي عليه في الضغط على الحكومة السورية، وان تبحث في تطبيق عقوبات اقتصادية اكبر عليها".
وفي آخر جلسة استماع للجنة الفرعية لمجلس النواب للشرق الأوسط وجنوب آسياHouse Subcommittee on the Middle East & South Asia، والتي حملت عنوان "التطورات في لبنان" Update on Lebanon، اكد رئيس اللجنة غاري أكرمان والسفير فيلتمان التزام أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون "استمرار دعم سيادة وديمقراطية ورخاء لبنان". وشددا على "ضرورة سعي الولايات المتحدة إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة في لبنان واستمرار انخراط شركاء الولايات المتحدة من أجل هذا الهدف، وإلى استمرار تدعيم مؤسسات الدولة اللبنانية، وجهود الحكومة اللبنانية من أجل توسيع سلطاتها". وأشارا إلى "ضرورة سعي الإدارة لتحقيق سلام بين إسرائيل ولبنان في إطار تحقيق سلام شامل بالمنطقة، انطلاقًا من أن لبنان فاعل رئيس في بناء سلام واستقرار في منطقة الشرق الأوسط على المدى الطويل". واعتبرا ان "الدعم الأميركي لاستقرار واستقلالية لبنان مهم جدًّا لنجاح الجهود الأميركية المستقبلية في المنطقة".
ولخّص أكرمان المصالح الأميركية في لبنان بـ "سيادة واستقلال الدولة اللبنانية ووحدة أراضيها"، مضيفًا أن الولايات المتحدة "تريد أن يحكم لبنان اللبنانيون من أجل اللبنانيين، وأن واشنطن تحتاج إلى شريك وليس دولة ميليشيات وفرق عسكرية، وحليفٍ وليس وكيلا، وداعيا إلى "استمرار واشنطن في تقديم الدعم إلى اللبنانيين لتحرير لبنان من القوى والهيمنة الخارجية (...) والى ضرورة تدعيم الولايات المتحدة الجيش اللبناني (LAF) وقوى الأمن الداخلي (ISF)، انطلاقا من شرعيتهما القوية داخل لبنان، ودورهما في محاربة أنشطة الإرهابيين المدعومين من القوى الخارجية".
واكد فيلتمان ان المحكمة الخاصة بلبنان تُعبّر عن رغبة اللبنانيين والمجتمع الدولي في وضع حدٍّ لعهد الإفلات من عقوبات الاغتيالات السياسية، انه مؤمن في ان المحكمة ستقدم قتلة الحريري، إلى العدالة. وشدد على أن "المحكمة ليست جزءا من اتفاق سياسي إقليمي أو أنها ذات طابع سياسي، ولكنها تهدف إلى العدالة من خلال أدلة يتوصل إليها من الاستجوابات والتحقيقات، أي محكمة مهنية وليس سياسية".
التعقيد لبنانيا
ارتكازا على هذه الانطباعات والمواقف، يعتقد ديبلوماسيون عاملون في بيروت انه على رغم هيمنة مناخ الانفراج على مجرى الاستشارات النيابية التي قام بها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، ثمة معطيات تزيد في احتمال الحاجة الى مزيد من الوقت والجهد قبل بلورة صيغة حكومية معقولة ترضي الاطراف السياسية، الامر الذي يرجح استمرار مشاورات الرئيس المكلف في مرحلة لاحقة، لمدة اسبوع على الاقل، قبل ان ينخرط في مرحلة وضع الاسماء والحقائب، والتي يؤمل ان تبدأ في الاسبوع الاول من الشهر المقبل.
ويرى الديبلوماسيون ان المعلومات عن القمة السعودية - السورية لا تزال غير كافية بشكل يسمح بتقديم انطباع عن تأثيراتها الايجابية المباشرة على مسألة تشكيل الحكومة، من دون ان ينفي ذلك مناخ التفاؤل المحدود الذي تركته القمة.
وفي اعتقاد الديبلوماسيين ان التقديرات لنتائج قمة جدة تشير الى انها حققت انفراجاً على الصعيد اللبناني، وعلى مستوى العلاقات بين الدولتين، لكن هذا الانفراج لم ينسحب اتفاقاً على المستوى الاقليمي، لاعتبارات تتصل بالعلاقات السعودية - الايرانية، وبالمسار الذي يسلكه الملف النووي الايراني وخصوصا بعدما كشفت طهران عن مفاعلها الثاني في قمّ، مما ادى الى خلط كل الاوراق الدولية.
ويخلص هؤلاء الى ان الانطباع عن اندفاعة سرية وفاعلة ومؤثرة نحو إنجاز الملف الحكومي، يبدو غير مبني على وقائع ثابتة، اقلّه في المدى المنظور، نظرا الى تشعّب التعقيدات والذيول الناتجة عن التصلّب في مسار المفاوضات الايرانية مع مجموعة الست (الدول الخمسة الاعضاء في مجلس الامن زائدا المانيا).


الأحد، 20 سبتمبر 2009

Sphere: Related Content
الازمة تتأصل في تشابكها مع التطورات من صعدة الى انقرة
ثلاث جبهات - عوائق في طريق الاستقرار اللبناني
تقاطعات بين بيروت وصعدة في الفتن وحروب الاقلويات
جورج ميتشل نقل الى لبنان ضمانات تُبعد حربا اسرائيلية


ينشر في "الاسبوع العربي" في 28/9/2009
يتأصّل ترابط الازمة اللبنانية بمجموعة الازمات التي تعصف بالمنطقة: من صعدة وعمران في شمال اليمن حيث الفرز الطائفي – الحربوي في اوجه، الى العلاقة العراقية – السورية المتأججة خلافات واتهامات ومحاكم دولية مستعادة، فالازمة النووية الايرانية في ضوء مقترحات طهران الى مجموعة الست، مرورا بتجميد مسارات التفاهمات العربية لعوامل عدة منها ما يرتبط بتراجع الود الاميركي المنفلش على رقعة الشرق الاوسط، ومنها ما يعود الى قصور فهْم بعض العواصم ما حصل من تقارب، واعتقادها ان في امكانها توظيف اعادة التموضع سبيلا لاعادة ما "سُلب" منها من حقوق وجغرافيات!
لم يكن هذا التداخل في الازمات، بعد مدّ من "الريلاكس"، امرا غريبا على اللبنانيين الذين طالما خبروا تشابك جزئياتهم، واحيانا هوامش حياتهم اليومية، مع كل ازمات الاقليم القابع على خط زلازل سياسي هدّام لا يستكين لا صباحا ولا مساء. فلبنان دفع مرات كثيرة اثمانَ ما ليس له فيه من مصالح اقليمية – دولية: من القضية الفلسطينية بدءا، الى حلف بغداد في منتصف خمسينات القرن العشرين، ثم نظريات هنري كيسينجر في منتصف السبعينات، فمعاهدة كامب ديفيد في نهاياتها، وصولا الى التوكيل الاميركي الشهير قبيل حرب الخليج الاولى، بداية التسعينات. هي لعبة الامم التي تكاد تحبس وليد جنبلاط، هذه الايام، داخل شرنقتها!
من صعدة الى بيروت!
تقع محافظة صعدة في الجزء الشمالي من الجمهورية اليمنية، ويبعد مركزها الإداري عن العاصمة صنعاء شمالا حوالى 243 كيلومترا. ويبلغ سكانها وفقاً لنتائج التعداد السكاني للعام 1994 نحو 484,063 نسمة. وازدهرت صعدة كمدينة علم ودين وثقافة وتجارة وصناعة وزراعة، إضافة إلى دورها الرئيسي في أحداث العصر الإسلامي الذي شهد صراعات وحروب عنيفة متواصلة على الساحة العربية عموما وعلى الساحة اليمنية خصوصا. ويتنوع مناخ صعدة تبعاً لتضاريسها الطبيعية، وهو معتدل صيفاً وبارد شتاء.
لماذا هذا الاسقاط؟ وما الجامع بين صعدة وبيروت، وبينهما آلاف الكيلومترات؟
دخلت صعدة، فجأة، في القاموس اللبناني السياسي والشعبي، منذ بدء الحرب بين الحوثيين والنظام اليمني، وهي راهنا في نسختها السادسة. ذلك ان الحرب هناك، كما في الحرب اللبنانية عام 1975، بدت فعليا حرب الآخرين على ارض اليمن، ترجمها تنافس مذهبي صار اقرب الى فتنة بين جماعتين يمنيتين اكثرية واقلوية. وتكاد تكون نسخة من مشروع الفتنة التي قدّر بعض العواصم ان تكون بيروت ساحتها، لكنها انتقلت، او نُقلت الى شمال اليمن، بقدرة قادر، وربما لحسن طالع لبنان.
ثمة قراءات ديبلوماسية وجيو - سياسية عدة للحرب في صعدة ولإنعكاساتها اللبنانية، منها اثنتان:
-قراءة اولى تعتبر ان ما يجري في ذلك الاقليم اليمني، محاولة إيرانية للضغط على الإدارة الأميركية لدفعها إلى التفاوض، باعتبار أن الحوثيين مدعومون من ايران، وأن تهدئة الاوضاع تحتاج الى تدخل إيراني لوقف النزاع. ويبدون خشية من أن تنتقل الحرب بالواسطة في صعدة، الى لبنان على شاكلة تفجير أمني - فتنوي واسع ردا على ما يحدث، لإشغال الساحة اللبنانية مجددا بهدف تمرير بعض الاستحقاقات الاقليمية.
2-قراءة ثانية تخشى ان يجري نقل احداث صعدة الى ازقة بيروت، كنسخة منقّحة من احداث ايار (مايو) 2008 بغرض احلال ديماغوجية المذاهب واللعب على الوتر المذهبي السني – الشيعي، فيما الهدف الرئيس إرباك "حزب الله" وتعطيل دوره في مواجهة اي حرب اسرائيلية محتملة.
تشابه في الخطاب!
وكان لافتا ان يطلّ الامين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله، في خطابه في "يوم القدس" في الثامن عشر من ايلول (سبتمبر)، على احداث صعدة، كاشفا ان الحزب تلقى اتصالا من الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في خصوص هذه الاحداث، وخاطبه قائلا: "الله بأهلك وشعبك، ولا دخل لي في التفاصيل، ولكن فلتبادر لوقف نزف الشعب وفتح الباب السياسي ولوقف إطلاق النار. لست اعرف ماذا يجري هناك ولم يطلب مني أحد إطلاق هذه المناشدة"، مضيفاً: "في يوم من الأيام أصغينا لك وأكرمناك، اليوم نناشدك بأن تأمر بوقف القتال". وردت صنعاء مرحبة ومعلنة وقف اطلاق نار لمناسبة عيد الفطر، ولافتة الى "اننا في الوقت الذي نقدر فيه للسيد حسن نصر الله دعوته وحرصه على تجنب إراقة الدم اليمني فإننا نؤكد له أن الدولة قد فُرضت عليها الحرب فرضا كانت دوما ولا تزال حريصة على اللجوء إلى كل الخيارات السلمية (...)".
وسبق للقيادة اليمنية، قبل اشهر، ان اتهمت عناصر في "حزب الله" بدعم وتسليح جماعة الحوثيين. ولاقى هذا الاتهام، في حينه، ردا عنيفا من نصر الله. كما اتّهمت هذه القيادة ايران بمحاولة تصدير الثورة الاسلامية.
ومن يطّلع على صحف اليمن الرسمية هذه الايام والمواقع الالكترونية المقربة من جماعة الحوثيين او الداعمة لها، يخال انه يقرأ التصاريح اللبنانية نفسها زمن التأزم العصبي، وهي بمجملها خطابات بنكهة لبنانية، من جهة عن "مخاطر نشر التشيّع والمد الصفوي"، ومن جهة اخرى عن "الرغبة في استهداف الجماعة الشيعية" وصولا الى اعتبار "حزب "الشباب المؤمن" الحوثي فرعا لـ "حزب الله"!
3 جبهات
ويقول ديبولوماسي واسع الاطلاع، في سياق مقاربته تشابك الازمة اللبنانية الراهنة مع مجموعة ازمات المنطقة، إن جلاء الموقف ينتظر ثلاث محطات:
1-نتائج المحادثات التي اجراها الرئيس السوري بشار الأسد مع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في ضوء المعلومات الأولية التي تحدثت عن أن انقرة أثارت الأوضاع في لبنان والعقبات التي تعترض تشكيل الحكومة، وانها ما زالت تعتبر أن من ترتيبات الاستقرار في المنطقة، استقرار الوضع اللبناني سياسيا وأمنيا واقتصاديا، علما ان المعاهدة السورية – التركية (مجلس تعاون استراتيجي) التي تمّ توقيعها بين الأسد وأردوغان لا تدل الى وجود مشروع اشتباك جديد على مستوى الاقليم.
2-النتائج المرتقبة للرسائل الاميركية الى ايران حول الملف النووي، لا سيما في ضوء المقايضة التي تطرحها طهران بالتفاهم على كل النقاط الساخنة في المنطقة من العراق حتى أفغانستان مرورا بلبنان، اضافة الى اللقاء المنتظر بين وفد مجموعة الدول الست (الاعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الامن زائدا المانيا) والمفاوضين الايرانيين في بداية تشرين الأوّل (اكتوبر).
3-جلاء وجهة التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ضوء التقدم المعلن عنه، والاطلالات التذكيرية الاخيرة لمسؤولين في المحكمة، في مقدمهم المدعي العام القاضي دانيال بلمار.
سماح ضروري
ويعتقد الديبلوماسي ان فترة السماح او الانتظار الحكومية طويلة، لكنها قد تكون ضرورية لاستطلاع تطورات الصراعات الإقليمية، ولادراك المكامن التي من خلالها يمكن تحقيق خرق لبناني في الجدار الإقليمي المتصلّب. ويشير الى ان ثمة اطرافا لبنانية رئيسية تنتظر ما سيفضي اليه مسعى انقرة حول الملف النووي الايراني، خصوصا في ضوء تبدل الموقف الروسي من العقوبات المحتملة على طهران بعد تخلي الولايات المتحدة عن الدرع الصاروخية في بولونيا وتشيكيا. اذ تعتقد هذه الاطراف اللبنانية ان مسألة تشديد العقوبات على ايران ستشكل مؤشرا الى مرحلة اقليمية جديدة لن تكون المنطقة برمتها بمنأى عن تداعياتها.
اما مسألة الحرب الاسرائيلية على لبنان فالتصاريح في تل ابيب، بحسب الديبلوماسي، توحي كأنها تقترب، في حين تعاكسها المعلومات الواردة من اكثر من عاصمة، منها ما ذُكر عن مهمة المبعوث الرئاسي الاميركي جورج ميتشل الذي نقل الى بيروت سلّة من الضمانات الاقليمية والدولية، في طليعتها أن التهديدات التي يطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، حدودها - حتى إشعار آخر- حدود الداخل في إسرائيل، وما يدور من تجاذبات سياسيّة حادة داخل الحكومة، وان هذه التهديدات تأتي في سياق حملة إعلاميّة مفتوحة للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي وشدّ عصبه حول الطروح السياسيّة لنتانياهو، اطلاقا من ان للحديث عن لبنان وعن "حزب الله"، وقعه النفسي الايجابي المؤثر منذ حرب تموز (يوليو) 2006 وتداعياتها.
ويرى الديبلوماسي ان تكاثر المناورات الاسرائيلية على جبهة الشمال وفي الجولان والتي تحاكي حربا على اكثر من جبهة، هي في حد ذاتها مؤشر آخر الى ان النوايا الاسرائيلية لا تزال، حتى اشعار آخر، تهويلية.

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

Sphere: Related Content
خشيةٌ من ان تملأ الاضطرابات الامنية الفراغ السياسي
الحكومة تترنّح في خانة الانتظار حتى الميلاد!
الاطراف الاقليمية تؤاثر التريث الى حين تبلور آفاق استعادة التسوية السلمية
رئيس الجمهورية غير قادر على المبادرة بفعل اغلال الدستور

ينشر في "الاسبوع العربي" في 21/9/2009
دخل لبنان مطلع الاسبوع المنصرم المرحلة الثانية من مشوار تأليف الحكومة مع استعادة عملية الاستشارات النيابية الملزمة في القصر الرئاسي بعيد اعلان النائب سعد الحريري اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة اثر امتناع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عن توقيع مرسوم التشكيلة التي تقدم بها الحريري والتي اثارت موجة من الردود تفاوتت بين تأييد تيار "المستقبل" وحلفائه على رغم بعض التحفظات المعلنة، والرفض القاطع للمعارضة لا سيما منها تكتل "التغيير والاصلاح" و"التيار الوطني الحر"، المتهم بالعرقلة والتعطيل، بشكل اكثر تحديدا.
اسئلة كثيرة تطرح بعد التطورات الاخيرة التي شرّعت الساحة السياسية اللبنانية على احتمالات عدة، تبدأ بتوقع الكثير من العقبات التي ستحول دون التأليف وصولا الى استشراف ازمة حكومية مرشحة الى ان تطول في حال استمرار الجمود الاقليمي لا سيما على الخط السعودي- السوري وتشبث الافرقاء اللبنانيين بمواقفهم التي ان لم تكن هي في اساس التعقيد، بحسب بعض المراقبين، الا انها تعكس عدم الحراك الاقليمي المسهّل، في ما لو حصل لعملية التشكيل.
ماذا اذا إثر اعتذار سعد الحريري ثم اعادة التكليف؟ ولماذا قفز الى الذهن، فور اعلانه الاعتذار، صورة والده الراحل "يستودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب"، من دراته في قريطم في خريف العام 2004، بعد معاناة مع التشكيل لم تصل في حينه حدّ السبعين يوما، لكنها كانت كافية لإدراكه ان ثمة قرارا سوريا بمنع عودته الى الحكومة قبل الانتخابات النيابية، إلتحف لباس تجيير اصوات النواب الى رئيس الجمهورية لاختيار رئيس الحكومة؟
مخاض التشكيل
في هذا الاطار، يقول قيادي في الموالاة اطّلع من قرب على مآل المسار الحكومي للرئيس المكلف، ان هذا المسار، منذ اعلان التكليف الاول قبل شهرين ونيف، مرّ بمسارات اربعة كان جلّها اقرب الى مخاض قاس لسعد الحريري، قاده الى اعتذار، هو فعليا قلب لطاولة السبعين يوما ولما عليها ولمن حولها:
-في المرحلة الاولى، انصرف الرئيس المكلف الى مفاوضة "حزب الله" وحركة "امل"، في موازاة، وربما في تلاق مع استئناف الاتصالات على المستوى السعودي – السوري. وبلغت هذه المرحلة سقفها الاعلى والاجدى مع اعلان السيد حسن نصر الله الاتفاق مع سعد الحريري على مشاركته حكومة وحدة وطنية وفق صيغة شراكة تتجاوز كل طبقات مرحلة ما قبل الانتخابات التشريعية، بما فيها نتائج الانتخابات نفسها. وحينها سرت المياه في مجراها بشكل لافت، وربما مستغرب. وتعهدت دمشق تسهيل استيلاد الحكومة. وتقاطعت باريس وواشنطن وعواصم قرار اخرى على الاشادة بالتعهدات السورية، وصولا الى ضرب موعدين دمشقيين: واحد لقمة سعودية – سورية تصالحية، وثان لزيارة "تصالحية" لسعد الحريري كتب فيها الكثير ونسجت في سياقها سيناريوات متعددة، بعضها اقرب الى علم الخيال.
-في المرحلة الثانية، حدث ما ليس في الحسبان اثر زيارة قيل ان السيد نصر الله قام بها لدمشق، حيث التقى الرئيس بشار الاسد في جلسة تقويمية لنتائج الانتخابات النيابية ولمسار ما بعد هذه الانتخابات. بعدها، تراجع التفاؤل بالمسار السعودي – السوري، وانسحب سلبا على المداولات الحكومية لبنانيا. وصودف ان اعلن وليد جنبلاط في الثاني من آب (اغسطس) انقلابه الشهير على قوى الرابع عشر من آذار (مارس)، فإختلط نابل دمشق – حزب الله بحابل انعطافة البيك، وتعقّدت الامور والمسارات، ووظفت المعارضة هذا الاختلاط افضل توظيف، واحتفلت، غنائيا وشماتة، بالانقلاب، وكالت الوعيد لقوى الرابع عشر من آذار (مارس) بالتفتت والتشقق والاضمحلال، وبفقدان فرصة الحكم وضياع الحظوظ بالحفاظ على الغالبية النيابية.
ويضيف: كانت هذه المرحلة الاشد على سعد الحريري من حيث وطأة الانقلاب والانفساخ الجنبلاطي، ومن حيث قساوة الهجوم المعارض عليه، وخصوصا من "التيار الوطني الحر".
انصرفت الرياض، في خطة اجرائية وقائية، الى ترويض ولجْم الخيل الجنبلاطية الجامحة (الوصف للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز في نيسان / ابريل 2006، واكده في حينه جنبلاط نفسه، فخورا بوصفه بالخيل التي هي "أهم ما لدى العرب، ويكفيني أن يصفني الملك عبد الله بأنني مثل الفرس التي تحتاج الى لجم بعض الأحيان"!). وامكن ردّ بعض من اندفاعات زعيم المختارة ونوازعه، وخصوصا في اتجاه طهران، الى ان كان لقاء العتب الشهير الذي تمخّض عن اعلان جنبلاط بقاءه في اكثرية سعد الحريري لا في اكثرية 14 آذار (مارس)!
مكانك راوح ...
-في المرحلة الثالثة، يرى القيادي الموالي، انه وبعد استكانة الانقلاب وعدم فاعلية المعارضة في توظيفه، انصرف الحريري الى مفاوضة ميشال عون، وكان توزير جبران باسيل في صلب مطالبه، لا بل كاد يختصرها. كثرت اللقاءات مع باسيل، في ضوء لقاء يتيم مع عون في القصر الجمهوري برعاية ميشال سليمان، لكن المطالب ظلت واحدة، واستمرت المراوحة. وتنصّل "حزب الله" من وعد قيل انه سبق ان قطعه في المرحلة التفاوضية الاولى، بأن يتولى هو شخصيا نصح حليفه بالاعتدال في مقابل الاتفاق على تثبيت المعادلة الهندسية الشهيرة 15- 10-5.
في الموازاة، انطلقت حملة سورية – لبنانية غير مسبوقة على المحكمة الدولية، وعلى دانيال بلمار شخصيا. فتنبأ البعض بمرض عضال اصابه جعله طريح الفراش وربما الموت، وساق البعض الآخر، متكئا تارة على تغيّر المقاربة الدولية لدمشق وطورا على تقرير "دير شبيغل" وارهاصاته، نظرية احتضار المحكمة دوليا وسياسيا.
-في المرحلة الرابعة، ومع بدء الشهر الثالث للتكليف، بات صبر الحريري قاب قوسين من النفاد. فالايام السبعون أكلت، بل إلتهمت من رصيده السياسي والشخصي، في سابقة قلّما حصلت في تواريخ لبنان بين الجمهوريتين الاولى والثانية. وكان لا بد من المبادرة، إثر مدّ التفاوض وجزْر الحوار، وما بينهما من سكون، قال وربما بالغ سعد الحريري في وصفه بـ "صمت ابي الهول". جمع الرجل اوراقه التي تبعثرت على مدى الايام السبعين بين بيتي قريطم والوسط وقصري بعبدا وبيت الدين، وحسم قراره: التشكيلة ها هي: إما تؤخذ كاملة وإما لا تؤخذ، على طريقة الصفقة المتكاملة في البيزنيس: Take it or Leave it. لا مكان بعدها، لا للتفاوض ولا للاخذ واللغو. ردّت المعارضة بأن جمعت هي الاخرى اوراقها وخليليها والجبران، وأبلغت الى رئيس الجمهورية على دفعتين، اولا رفضها الصيغة، وثانيا مطالبها الشفوية: وزارة الطاقة وتوزير باسيل في الاتصالات وتعديل في اسمي وزيرين للحزب والحركة.
ويتابع القيادي في الموالاة: اراد الحريري الاعتذار، لكن المملكة العربية السعودية مع ميشال سليمان ووليد جنبلاط ونبيه بري ارادوا له بعضا من طول البال، واسبوعا واحدا حتى الاثنين في الرابع عشر من ايلول (سبتمبر). طال بال الحريري يومين فقط، ليصعد الى بيت الدين يوم الخميس في العاشر منه، فيقلب الطاولة ويستعيد زمام المبادرة.
الفراغ والهاجس الامني
لكن في سياق هذه الاستحقاقات الداهمة، يخشى مراقبون ان تكون البلاد قد دخلت مرحلة من انعدام التوازن ستؤدي الى تمديد أجل حكومة تصريف الاعمال حتى كانون الاول (ديسمبر) في الحد الادنى، وسط خشية متنامية من محاولات لملء الفراغ السياسي بالتوترات الامنية التي دفعت الاجهزة الامنية الى التحوّط لملاقاتها بتدابير استثنائية، سبق ان اقرّها مجلس الامن المركزي قبل فترة.
انه، بإختصار، اعلان دراماتيكي لانطلاق مرحلة جديدة من المواجهة السياسية بين أكثرية ترمي الى استعادة المبادرة والحفاظ على مكتسبات السابع من حزيران (يونيو) 2009 وطمس خسائر السابع من ايار (مايو) 2008، وأقلية تحاول التعويض عن الخسارة النيابية بالقفز فوق نتائج الانتخابات والضغط في اتجاه تركيبة حكومية تضعف الأكثرية ما امكن، بالثلث الضامن المضمور، ولِمَ لا، بإستعادة "إنتصار" السابع من ايار (مايو)!
اذن، العراقيل التي حالت دون تشكيل الحكومة مرشحة للاستمرار على حالها في المرحلة المقبلة كونها وليدة عوامل اقليمية اكثر مما هي محلية، لا سيما اثر طغيان حال الترقب على مستوى الاقليم عشية استحقاقات كثيرة، في مقدمها الجهود الاميركية لتحريك ملف التسوية السلمية مع زيارة المبعوث الاميركي جورج ميتشل، ما يدفع كل الاطراف الاقليمية الى مؤاثرة التريث والترقب والبقاء في خانة الانتظار، الى حين تبلور الآفاق والآليات.
وحده رئيس الجمهورية يقف حائرا، واحيانا اسير توافقيته. فلا هو قادر على المبادرة بفعل قيود الدستور واغلال مواده، والاهم لرغبته في احترام ما كُتب في الكتاب، ولا هو قادر على الاقناع بفعل تشعّب المواجهة محليا واقليميا، وخروجها اطوارا كثيرة عن مقتضيات العناصر المحلية، لا بل عن قدرة هذه العناصر على ادارة ازمة اريدت ان تبقى كذلك بفعلٍ، بل بإرادةٍ اقليمية!

الأحد، 6 سبتمبر 2009

Sphere: Related Content
ذكرى قيام الدولة كادت تندثر وسط صخب الهواجس والتحديات
لبنان في تسعينه يشيخ على ما فُطم عليه من مخاطر!
التوطين يبحث اوروبيا في موازاة التداول الاميركي بآليات احياء التسوية

ينشر في "الاسبوع العربي" في 14/9/2009
في خضم كثرة الاحداث التي حفلت بها لبنان على مرّ محطاته الاستقلالية، تندثر (او تكاد) الذكرى التاسعة والثمانين لقيام دولة لبنان الكبير من صفحات التاريخ اللبناني على رغم اهميتها في تحديد كيانية الوطن وصورته وجغرافيته ونظام الحكم فيه. الا انّ المشترك في كل المحطات المفصلية، العودة الى المواجهة للدفاع عن نهائية هذا الوطن الذي ارتسمت اولى خطوطه مع اعلان الدولة. فهل ما يشهده لبنان راهنا، مع الحديث المتزايد عن خطر التوطين، محطة جديدة من محطات الدفاع عن بلد انهكته الصراعات والتسويات الاقليمية والدولية ولم تستسلم في استخدامه ساحة لتمرير مخططاتها؟
مرّ الأول من أيلول (سبتمبر) كمثيله من ايام هذا العام، مع انه مفصلي في تاريخ الكيان اللبناني. هو يوم نسيه اللبنانيون تماما، بل فقدوه في زحمة الأيام والمناسبات. في الأول من أيلول (سبتمبر) 1920 أعلنت دولة لبنان الكبير التي اعادت ضم السهل والساحل والأقضية الأربعة الى جبل لبنان التاريخي، ليظهر لبنان بتركيبته الموزايكية الجمهورية - الطائفية - الديموغرافية - السياسية – التوافقية، هي مزيج من ديمقراطيات الغرب وديماغوجيات الشرق.
يمثل هذا اليوم الحدث الأهم في تاريخ لبنان، كونه يرمز الى نهاية 400 عام من الحكم العثماني للمشرق العربي، ومن ضمنه لبنان، وهو الذي أعطى لبنان كيانه ونظامه السياسي الديمقراطي البرلماني، المطعم بالحرية الفريدة من نوعها في هذا الشرق، فضلا عن كل مقومات الدولة التي يعتز بها اللبنانيون منذ 90 عاما.
البطريركية والمجد صنوان
لبكركي في التاريخ منطقها: الدولة ثم الدولة ثم الدولة. بين جدرانها نشأت فكرة الدولة اللبنانية التي نقلها البطريرك الياس حويك إلى مؤتمر الصلح في قصر فرساي في العام 1919. في ذلك العام حمل بطريرك الاستقلال والسيادة، تفويضا وطنيا جامعا وقاتل في باريس من اجل لبنان بحدوده الراهنة.
منذ ايام البطريرك حويك رفض الكرسي البطريركي المزايدة عليه عربياً وقال بلغة زمانه: "ومتى كان لبنان فرنجياً ليقول اليوم عن نفسه أنه عربي". ويحلو للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ان يردد من فينة الى اخرى قول الشاعر العاميّ: "بكركي من عركي لعركي، لا زيتا ولا نورا شح، كلّن عم يحكوا تركي، وبكركي عم تحكي صح".
ويلاحظ المؤرخون انه من بين كل الكيانات التي اعلنتها فرنسا – زمن الانتداب- أو فكّرت في نسجها، من دولة حلب الى دولة دمشق الى دولة اللاذقية الى دولة جبل الدروز الى سنجقي إسكندرون والجزيرة، لم تكتب الحياة الا لمشروع الجمهورية اللبنانية. ويعود الفضل الرئيس في ذلك الى رؤيوية البطريركية المارونية التي انتقت بدقة حدود لبنان، فلم تنقص منها في الاطراف حتى لا تفقد الدولة الناشئة خزانها الغذائي في السهول، ولم تزد عليها حتى لا تثير غضب الجيران!
ويورد مؤرخون انه عندما وضع رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو (الملقب بالنمر) الخريطة أمامه، وراح يخط حدود الدولة العتيدة، شطح به القلم فضم دمشق إلى لبنان، قبل أن يتنبه البطريرك حويك، الذي تردد أنه رفض حتى إلحاق وادي النصارى في سورية بالدولة لأن جلّ سكانها من الأرثوذكس لا من الموارنة.
لكن البطريرك صفير صحّح هذه الرواية المتداولة، نافياً أن يكون سبب رفض سلفه إلحاق وادي النصارى بلبنان الكبير لأن جل سكانه من الأرثوذكس، بل بسبب طغيان العلويين في تلك المنطقة وامتداداتها.
والبطريركية، منذ رحلة البطريرك حويك الى مؤتمر الصلح في فرساي، تعتبر نفسها حامية للوحدة اللبنانية. وعلى هذا الاساس، تحتسب خطواتها بمنتهى الدقة ويتوارث احبارها تراثا متكاملا من النضال والرؤية والذوبان في الكيان – الدولة حتى الرمق الاخير. لذا اعطي لها مجد لبنان.
في آذار (مارس) 2005، سلم البطريرك الماروني، في زيارته الاخيرة لواشنطن، الرئيس الاميركي السابق جورج بوش مذكرة خطية ابرز عناوينها: انتهاج الإدارة الاميركية سياسة منتجة وحلولاً لأزمة لبنان لا تكون رهينة المصالح الدولية المتغيرة أو رهن حلول إقليمية تأتي على حساب لبنان، ورفض التوطين والتشديد على مسؤولية المجتمع الدولي ومسؤولية الولايات المتحدة في الحفاظ على الرسالة اللبنانية وعلى الديمقراطية والحرية، وتأمين حماية دولية مالية للبنان.
وفي النداء العاشر للاسقفة الموارنة، شكت بكركي من ان "بروز حكومة يمينة متطرفة في اسرائيل زاد من وضع العراقيل أمام أي حل عادل لهذه القضايا، ولا سيما القضية الفلسطينية التي يتأثر بها لبنان كل التأثر، اذ ان المساعي التي يقوم بعض البلدان بها عادت تطرح بإلحاح قضية توطين الفلسطينيين في البلدان التي يعيشون فيها. وهذا يحرم الفلسطينيين من حقهم في العودة ويشكل اكبر خطر على لبنان دولة ومجتمعا وكيانا. فكيف سيواجه اللبنانيون هذا الخطر؟".
ويظهر من مجمل المواقف السياسية للبطريرك الماروني ان التوطين يعتبره الاخطر على الصيغة والكيان والتوازنات السياسية والديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية.
التوطين مجددا
في زيارته الاخيرة لبيروت، اطلق المفوّض الاعلى للسياسة الخارجية والامن في الاتحاد الاوروبي خافيير سولانا كلاما خطيرا في هذا الشأن، لم يأخذ حقه في النقاش ومرّ مرور الكرام نظرا الى ان موجة الحكومة المعلّقة باتت تستحوذ الصورة والصوت. قال سولانا، تعليقا على تحذيرات اطلقها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عن خطر التوطين: "لا أستطيع ان أساعد في حل هذه المشكلة، لكن سأرفع الامر الى المعنيين في الاتحاد الاوروبي".
يعتبر المراقبون ان مردّ الخطورة في هذا الكلام انه مؤشر صريح الى ان التوطين يبحث جديا في المحافل الاوروبية، في موازاة البحث الاميركي في آليات احياء المسار التسووي في الاقليم، انطلاقا من معالجة الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، حيث تبرز عودة فلسطينيي الشتات احد اهم العقد والعثرات، وهي كانت مدار بحث مستفيض في ما سمي بوثيقة ابو مازن - يوسي بيلين (وزير العدل في حكومة إسحق رابين وكشفتها صحيفة "هآرتس في 23 شباط / فبراير 1996) التي تلت توقيع اتفاقية اوسلو في بداية التسعينات. وتنصّ هذه الوثيقة التي أطلق عليها "مرجع المفاوضين السياسيين لمرحلة الحل النهائي"، في الشق الذي يعني لبنان مباشرة، أي اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، على "وجوب العمل على أن تحل هيئة دولية جديدة محل وكالة الغوث الحالية (الأونروا) لتتولى عملية إعادة تأهيل هؤلاء وتأمين إستيعابهم في دول وأماكن إقامتهم الحالية وإمتصاص أعدادهم في الحياة اليومية للمجتمعات التي يعيشون في محيطها"، على ان "تتكفل حكومة حزب العمل بالتعامل ثنائيا مع الدول المعنية ومع الأطراف الدولية الراعية دونما صخب أو ضجيج وبما لا يشكل إحراجا للسلطة الفلسطينية وتتكفل أيضا بممارسة الضغوط الكفيلة بإنتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف والتعامل مع الدول المضيفة بما يضمن إغلاق هذا الملف ببطء بعد أن تتم تهيئة كل الظروف التي تعطي للاجئين حق المواطنة حيث يقيمون".
ويستذكر المراقبون اعلان ابو مازن في تموز (يوليو) 2005، أنه لا يمانع أن تمنح الدول العربية "إذا أحبت" للاجئين الفلسطينيين، معتبرا أن ذلك "لا يعني التوطين"، ومشيرا الى انها "مسألة عاطفية لا علاقة لها بالجنسية، فهناك فلسطيني من الجيل الخامس يعيش في تشيلي يحب أن يعود عندما يسمح له".
وبعد أيام قليلة على موقف أبو مازن، حصل جدال بين المندوبين اللبناني السفير عبد اللطيف مملوك والفلسطيني محمد صبيح، في إطار أعمال الدورة الـ 74 لمؤتمر المشرفين على شؤون الفلسطينيين في جامعة الدول العربية، وذلك على خلفية تجنيس الفلسطينيين. فحينذاك أعلن السفير مملوك تمسك لبنان بقرار مجلس الجامعة الصادر في العام 1959 والقاضي "بعدم منح الجنسية للفلسطينيين في الدول التي تستضيفهم بصورة موقتة حتى يعودوا الى ديارهم"، لكن المندوب الفلسطيني قاطعه ليؤكد أن "قرار الجامعة هذا مجرد توصية سقطت بالتقادم"، وان "واشنطن ولندن وبعض العواصم الأوروبية تمنح الجنسية للفلسطينيين فأولى بالدول العربية أن تمنحهم إياها". فردّ السفير مملوك: "إن قامت الدول العربية بمنح الفلسطينيين الجنسية، فلن يعود فلسطيني واحد الى أرضه".
إلتقاط الفرصة
ويشير المراقبون الى ان كلام سولانا عن البحث في التوطين مقرونا بإلحاحه على اللبنانيين كي "يلتقطوا الفرصة الدولية للاسراع في تشكيل الحكومة لأن في ذلك فائدة كبيرة للبنان الذي يمكن ان يستفيد من الاجواء الراهنة و ينصرف الى معالجة مشاكله وتحسين وضعه الاقتصادي"، فيه الكثير من ورائيات الكواليس الاوروبية، حيث كُشف مرارا عن مؤتمرات دولية سرية عقدت في اكثر من عاصمة اروربية، بينها واحد في احدى السفارات الكندية، خصصت للبحث في مسألة توطين الفلسطينيين حيث هم او في دول راغبة في ذلك او يفرض عليها ذلك لقاء اثمان سياسية او اقتصادية. ولا يزال كلام الرئيس بوش عن الصندوق الدوليذي الـ 120 مليار دولار احد "الوثائق" التي يُستند عليها عند مناقشة هذا الملف.
ويعتبر المراقبون ان المقصود تحديدا من تشديد سولانا على اهمية وجود حكومة في لبنان عشية استحقاقات متسارعة، تلك التي تتمثل بالحراك في واشنطن لاطلاق مبادرة الرئيس باراك اوباما للتسوية في المنطقة، واستطرادا مستقبل الوضع الفلسطيني، ما يضع لبنان امام خطر التوطين الذي ستطرحه اسرائيل بندا في سياق مفاوضات التسوية.