إستعادة الدور بالعودة الى الريادة وبإعطاء لبنان معنى جديد لدولة مدنية ديموقراطية
الموارنة الذين لا ينتظمون: بيت بمنازل مشتتة
صفير زار سوريا مطراناً العام 1963 في عيد مار مارون والتقى شكري القوتلي
وهن واحباط وضمور في الدور وقصورٌ في اطلاق نهضة مدنية
ينشر في الاسبوع العربي في 15/2/2010
المشهد كان مغايرا هذا العام في الاحتفال بعيد القديس مارون، شفيع المجموعة التي لا تكلّ ولا تهدأ ولا تنتظم: في التاسع من شباط (فبراير)، قداس "رسمي" في الجميزة، وقداس "شعبي" في براد السورية حيث ضريح "إكتشفه" لبناني وسوري (غسان الشامي وجمال سليمان) ولا تعترف به الكنيسة. وبين القداسين، جمهوران واسئلة بحجم جماعة قيل ان لبنان وُجد من اجلها، وقال فيها الفيلسوف شارل مالك: "لقد أُعطي الموارنة كثيرا، ولذلك يُطلب منهم الكثير".
سبق لأسقف الموارنة في سوريا مطران اللاذقية وتوابعها يوسف مسعود ان وجه دعوة رسمية، لكن بصفة شخصية، الى البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، لزيارة حلب والمشاركة في الاحتفالات التي تقام في بلدة براد -المنسية حتى عام خلا- لمناسبة المئوية السادسة بعد الألف للقديس مارون. المرة الأخيرة التي زار فيها البطريرك صفير سوريا كانت في العام 1963 لمناسبة عيد مار مارون وكان مطرانا، والتقى خلالها الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي. ولا ريب انه لا يعارض دعوة من ابناء رعيته، لكن مسألة الزيارة الى سوريا فيها الكثير من الخلفيات والنوايا، وبكركي شاهدة على مئات الرسائل وعشرات الموفدين على امتداد حبرية نصر الله صفير، والذين لم يكلّوا. لكن لا هم اقنعوه ولا هو اقتنع. فالتوقيت مهم والوقت لم يحن بد. في الثاني من شباط (فبراير)، صرح البطريرك أن لا داعٍ لزيارته سوريا في هذه الأثناء، وانه لن يذهب من دون طائفته، لكنه استدرك ان "الظروف التي كانت تضغط على لبنان سابقا ربما خفّ ضغطها الآن".
"مورونويه لو مطكسي"
قلة، بمن فيهم موارنة، تدرك ان المارونية ككنيسة وُلدت بعد مئات الاعوام من وفاة القديس مارون. والثابت ان اول تسمية اطلقت على هذه الجماعة كانت مع حبرية القديس يوحنا مارون، وهو راهب من دير مار مارون وأسقف البترون وجبل لبنان. وانتُخب أول بطريرك على الكنيسة المارونية في خلال النصف الثاني من القرن السابع بعد المسيح (حوالى العام 686 ميلادي) عندما اصبح الكرسي الأنطاكي شاغراً. وهو أول بطريرك ماروني على انطاكية والثالث والستون بعد القديس بطرس الذي أسّس الكرسي الأنطاكي في القرن الأول بعد المسيح. وبهذا العمل كانت بداية تنظيم وبناء الكنيسة المارونيّة على الصعيد الكنسي والوطني والإجتماعي.
في الذاكرة المسيحية – المارونية عبارة ترُوْج عادة في مراسم الزواج "نيال البيت يللي بيطلع منو بيت"، للدلالة على مركزية العائلة في الحياة المسيحية.
لكن في الذاكرة السريانية، مثل شائع: "مورونويه لو مطكسي"، اي "الموارنة لا ينتظمون"، لأنهم لانهم يعتبرون ذواتهم انهم بأجمعهم قادة زعماء وهذا ما ينافي مسلمات المنطق وإستخلاصات عِبر تاريخهم المديد.
للموارنة اليوم بيت بمنازل كثيرة ومشتتة تعبّر عن قدرة هذه الجماعة على رفض الانضباط وتفضيلها التشرذم والاختلاف على الانحسار في عقيدة مقيّدة. هذا شأنهم منذ ان كانوا، وهذا دأبهم منذ ان وعا البطريرك اسطفان الدويهي على لبنان الكيان في مؤتمر فرساي في العام 1919.
علة الوجود
يشكل الموارنة الجزء الأكبر من المسيحيين في لبنان، واستمدوا دورهم السياسي من قوتهم الذاتية التي تمثلت في قدرات اقتصادية وعلمية وتربوية مكنتهم على امتداد التاريخ اللبناني، لعب دور سياسي كبير وبارز وفاعل، حتى أصبحت صورة لبنان على صورتهم.
كما استمد الموارنة نفوذهم من خبرتهم الكبيرة في الترجمة والتعريب والنقل، اضافة الى كونهم جسرا للوساطة التجارية بين ضفتي المتوسط، ولما لهم من علاقات متينة بين الشرق والغرب.
وكان لدور الكنسية المارونية الاثر الكبير في تنامي نفوذ ابنائها، فهي اشتُهرت بتنظيمها وقوتها الشعبية وقدرتها على التماسك والتأثير في صفوف رعاياها وتوحيدهم عبر الرهبنات والأوقاف والمؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية والأبرشيات التابعة لها.
استند الموارنة الى هذا الارث ليستجمعوا نقاط قوتهم عبر مسيرتهم، فكانت لهم امتيازات عدة منها احتكار موقع رئاسة الجمهورية وصلاحياته وقدراته الواسعة والمؤثرة، لا سيما كون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش، ويحصن بالتالي نفوذ قائد الجيش الماروني، اضافة الى نفوذ القوى الأمنية والأجهزة التي كانت حكرا" على هذه الجماعة.
اذاً، استمد الموارنة سلطتهم من نفوذ الكنيسة وامتيازات رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، في ظل تماسك القوة السياسية على رغم الخلافات والصراعات التي وقعت مرارا داخل الطائفة.
فاقة بعد عزّ
نال الموارنة امتيازاتهم عن جدارة وكمكافأة على انجازاتهم وتتويجا لدورهم وريادتهم في عصر النهضة، لكنهم خبوا وتراجعوا مع تراجع دورهم الطليعي الذي سبق ومنحهم قوتهم وزخمهم.
في مرحلة الاستقلال، تركزت الأولويات على بناء الدولة المستقلة وادارة شؤونها، وألقي جزء مهم من هذه المسؤولية على عاتق الساسة الموارنة، الذين تعثّروا – بصور متفاوتة - في ادارة شؤون البلاد. فتراكمت الاخطاء وتعاظمت نتيجة عجز المارونية السياسية عن استيعاب المتغيرات الاجتماعية، لا سيما مطالبة فئات لبنانية بحقوقها الاجتماعية واستنفار شرائح أخرى للمشاركة السياسية.
وتفاقم الوضع مع انعكاس أزمات الاقليم على لبنان، من الصراع العربي الاسرائيلي الى الوجود الفلسطيني و"إفراغ" الجنوب من السلطة وما تمخض عنه من توسّع المقاومة الفلسطينية (فتح لاند).
ولم يعِن الساسة الموارنة، حيال هذه التهديدات للهوية والكيان، استظلالهم شعار "قوة لبنان في ضعفه"، اتكاءً على تجارب كثيرة حيادية، وهي الصفة القانونية لبلد ما يمتنع عن المشاركة في أي حرب أو نزاع، ويلتزم مسافة واحدة من كل الأطراف المتحاربة مع ضرورة اعتراف الدول الأخرى بنزاهة وحيادية ذلك البلد، مثل النمسا، سويسرا، السويد، كوستاريكا، تركمانستان، فنلندا.
إنكشف لبنان، نتيجة لتعدد الرؤى وتعثّر الحوار، على حروب ونزاعات مدمرة متداخلة مع الصراع الاقليمي والدولي، تكررت خلالها سيناريوهات الفشل مع جنرالات الموارنة في ادارة الحرب (وحروبهم الخاصة ايضا)، مما أدخلهم لاحقا منهكين الى تسوية الطائف، فانتزعت منهم صلاحياتهم وامتيازاتهم.
الجمهورية الثانية: بداية الوهن
بدأ الوهن مذ انطلقت الجمهورية الثانية، بقطارها الشهير الذي جاهر قباطنته الكثر ان سيأخذ في طريقه من لا يستلحقه، فنفي من نفي وسُجن من سُجن وهمّش ومن هُمّش ورُفّع من رُفّع، والاهم زُعِّم من لم يكن يحلم يوما في ان يصير حاجبا على باب زعيم!
خفّ وهج الموارنة وضعفت سلطتهم وتراجعت، أمام دينامية الطوائف الأخرى، فلم يعودوا تحتكرون العلم والتربية الاقتصاد والثروة والمعرفة، مع انتشار التعليم في مختلف الطوائف، وتراجعت القوة المارونية مع تناقص العدد وتشتت التماسك المجموعتي وتنامي الهجرة واستشراء التناقضات والخلافات السياسية.
الدولة المدنية
غدا الموارنة بلا نصير اقليمي او دولي نتيجة تبدل موازين القوى والتحالفات، فتراجع نفوذهم وتأثيرهم. فلم تعد فرنسا امهم الحنون حصرا، وتأذوا من التحالفات التي فرضتها عليهم الحروب فرضا، من اسرائيل الى العراق مرورا بسوريا في العامين 1974 و1975. وزاد في التهميش المأسوي غياب القيادات التاريخية الجامعة والموحدة، ما انتج تناقضا وخيبة واحباطا لم تنفه خروج سمير جعجع من السجن وعودة ميشال عون من المنفى.
وفاخر الموارنة بتعددية الاتجاهات والآراء داخل صفوفهم، وهي مصدر غنى وديموقراطية بينما يحكم الاستفراد والثنائية الطوائف الأخرى، لكن هذا الاختلاف وصل الى حد التناقض والالغاء والفوضى، مولدا ضعفا في السلطة المارونية، ومؤديا الى تراجعها وربما سقوطها.
اما إستعادة الدور فبالعودة الى الريادة، بإعطاء لبنان معنى جديد لدولة مدنية ديموقراطية، دولة حرة ومستقلة ومنارة في المشرق العربي، دونها التقاعص والتخاذل في اطلاق نهضة جديدة، في اطار اعادة صوغ علاقاتهم في محيطهم المشرقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق