بعد "الانخراط" والانشغال بأولويات اخرى من العراق الى "الارهاب في باكستان النووية"
ايّ ذكْر للبنان في واشنطن؟
جنبلاط كان اول المنسلخين عن اصدقائه في واشنطن قاطعاً عنهم نبيذه الفاخر
فيلتمان في واجهة المقاربة الاميركية للبنان ويتواصل يوميا مع اصدقائه
ينشر في "الاسبوع العربي" في 9/11/2009
من يبحث في واشنطن هذه الأيام عن موقع لبنان، لا بد له ان يقع على حقيقة ان الهمّ الأميركي في مكان آخر تماما، بعيدا كل البعد عما لا يزال يخاله اللبنانيون عن "هال كم ارزة العاجقين الدني"! فواشنطن توزّع اهتماماتها بين الازمة المالية العالمية التي كادت ان تخنق اقصادها لا بل اعادته من ليبرالية مطلقة الى دور موّجه للدولة، اقرب الى نظريات كارل ماركس (!)، وبين افغانستان والعراق واليمن والصومال وارمينيا وتركيا، ومنابع النفط ومصادره وخطوط نقله. لكن هل يعني تشتت الاولويات هذا، تغييرا جذريا في سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان؟
في اسبوع واحد، نهاية تشرين الاول (اكتوبر) الفائت، زار ثلاث ممن يصطلح على تسميتهم مسؤولي الصف الثاني من فريقيّ الموالاة والمعارضة، العاصمة الاميركية. الاطباء وليد خوري وغطاس خوري ومصطفى علوش، جمعهم هدف واحد وهو المشاركة في مؤتمر طبي في شيكاغو، فيما النائبان السابقان اضافا الى جدول زيارتيهما تعريج مختصر على واشنطن، للسؤال عن بنت وابن يتابعان دراساتهما العليا.
وبما ان الرحلة الى واشنطن تستحق عناء بعض اللقاءات السياسية، تولى مكتب "التيار الوطني الحر" هناك تنظيم اجتماعات لوليد خوري مع مسؤولين في البيت الابيض ووزارة الخارجية، في موازاة زيارة تقوم بها المسؤولة الاعلامية في التيار مي عقل للعاصمة حيث شاركت في حلقات ابحاث استراتيجية. اما غطاس خوري فله علاقات مباشرة داخل الادارة، وله من بينها اصدقاء قدامى، من زمن "النضال" المشترك في بيروت في الاعوام الاربعة الفائتة، وقبل الفتور الذي يشوب علاقته بتيار "المستقبل" منذ ان قرر عدم الاطاعة والخروج عن قرار التيار سحب ترشيحه في الشوف لمصلحة جورج عدوان ودوري شمعون. وتتيح هذه الصادقات للمستشار السياسي السابق لسعد الحريري، اجراء لقاءات غير رسمية لاستكشاف بعض ما يطبخ اميركيا في الملف اللبناني، واستطرادا في الملف السوري. اما علوش فبقيت لقاءاته في اطار الدائرة الحزبية لقوى الرابع عشر من آذار (مارس) في واشنطن.
تلمّس عوني
اذن، يبدو استنادا الى اهداف الزيارات انها شخصية بالدرجة الاولى من دون تكليف رسمي من اي من الافرقاء التي ينتمي اليها الثلاثة، ما خلا وليد خوري الذي سبق ان اعلم العماد ميشال عون بأمر الزيارة مستفسرا امكان اجراء لقاءات سياسية على هامشها، فلم يمانع عون وطلب من مكتب التيار في واشنطن تنسيق هذه المواعيد، علما ان الفتور في العلاقة بين الجنرال والمسؤولين الاميركيين حدّ كثيرا من فاعلية تحرك مسؤوليه في واشنطن، بعد انتهاء شهر العسل المشترك مع عودته الى بيروت في السابع من ايار 2005، علما انه اتكأ على مجموعات ضغط (لوبي) لبنانية – اميركية ليعطي شهادته المثيرة في الكونغرس في ايلول (سبتمبر) 2003 اثناء مناقشة المشرعين الاميركيين استصدار قانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان Syria Accountability Act، ثم القرار 1559 بعد عام بالتمام والكمال، علما ان تلك الشهادة جلبت عليه في حينه ملاحقة قضائية بذريعة إنتحال "صفة رئيس حكومة" ومئات الاتهامات بالعمالة، في حين بادر ناصر قنديل الى اتهامه بالتعامل مع الموساد الاسرائيلي مبرزا مداخلة هاتفية قال ان عون اجراها مع اعضاء في الكنسيت. لكن هذا اللوبي صار منذ تأزم العلاقات والجدالات الحادة بين عون والسفير جيفري فيلتمان، غير ذي فاعلية في حين انتقل كثر من اعضائه الى الضفة السياسية الاخرى، الى جانب قوى الرابع عشر من آذار (مارس).
وشرح وليد خوري في مداخلة تلفزيونية، جانبا من كواليس زيارته الأميركية، موضحا أن سبب الزيارة في شقها السياسي كان للاتصال بالإدارة الأميركية لشرح مواقف تكتل "التغيير والإصلاح" و"التيار الوطني الحر" والاستفهام عن التعاطي الجديد الذي يدل الى تغيير جذري في السياسة الأميركية في المنطقة. وقال خوري انه خرج بإنطباع بأن الأميركيين مهتمون باستقرار لبنان وحرصاء على ألا يكون عنصر شغب في المنطقة، لكن همهم الأكبر يبقى عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ملاحظا عدم تأدية واشنطن دورا سلبيا في تشكيل الحكومة اللبنانية. وتوقّع طورا جديدا في السياسة الأميركية، بدأ من خلال الانفتاح على كل الأفرقاء، وإن لم يظهر جيدا في لبنان لكنه سيظهر قريبا، مشيرا في هذا الإطار إلى "تفهم الجهة التشريعية الأميركية (الكونغرس) موضوع سلاح "حزب الله" والمخاوف من توطين الفلسطينيين في لبنان".
اين لبنان في واشنطن؟
وصادف ان الزيارات الثلاث تزامنت مع ادلاء مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الادنى جيفري فيلتمان الاربعاء في الثامن والعشرين من تشرين (الاول - اكتوبر) بشهادة امام اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا، برئاسة عضو الكونغرس عن ولاية نيويورك الديموقراطي غاري اكرمان، وصف فيها التقدم في العلاقة بين بلاده وسورية بـ "المتواضع"، مشيرا الى "اننا نعتقد انه هناك مجال لعلاقة اميركية - سورية ايجابية وبناءة، لكن لتحقيق ذلك، نريد ان نرى سورية تعالج مصادر القلق لدينا من سياساتها الاقليمية، مثل دعم المنظمات الارهابية مثل حزب الله وحماس". واعاد فيلتمان سلاح "حزب الله" الى الواجهة الاميركية من باب القرارين 1559 و1701.
يستشف من زوار واشنطن تراجع اولويتي لبنان وسوريا في المنتديات كما في مراكز القرار، باستثناء موضوع "حزب الله" الذي توصّفه واشنطن راهنا بأنه مجموعة ارهابية تأتمر بإيران فقط، من دون اي نفوذ سوري يذكر.
وتحرص واشنطن على طمأنة سائليها عن مبرر تراجع اولوية لبنان الى هذا الدرك، بإشارتها الى انها لا تبحث مقايضات لا على حساب لبنان ولا على حساب سوريا، بل انها ادركت هامشيتهما بالنسبة الى سلم اولويات الادارة الاميركية في منطقة الشرق الادنى وجنوب آسيا، حيث الاولويات تبدأ من منع ايران حيازة سلاح نووي، مرورا بتثبيت الوضع في العراق، حليفا استراتيجيا مهما ينتمي الى محور الدول العربية التي تصنفها معتدلة، انتهاء بإقفال ملف حرب افغانستان للتفرغ لمواجهة الارهاب في باكستان النووية. اما باقي الاهتمامات فتتفرع من هذه الاولويات الثلاث، ومن هذه المتفرعات "حزب الله" وحركة "حماس" لارتباطهما بطهران، ولقدرتهما "التخريبية" كردة فعل في حال اندلاع مواجهة مع ايران.
وتعتقد واشنطن ان سوريا لم تذُب كليا بإيران وحسب، بل ان قدرتها "التخريبية" المحتملة وقراراتها صارت في طهران، فيما يحاول السوريون الايحاء انهم قادرون على اجراء مقايضة في العراق او في لبنان. وتاليا تبدد "وهم" السعي الاميركي الى الفصل بين سوريا وايران، لان دمشق "غير قادرة على التغيير في مجرى الامور لا في لبنان ولا في العراق، وحتى لو كانت قادرة على ذلك، فإن الوقت المطلوب لمحاولة استقطابها بعيدا من طهران هو اطول من الوقت المطلوب لـ "معالجة" خطر التسلح النووي الايراني".
وترى واشنطن ان لبنان وسوريا هما على خريطة الشرق الاوسط بمقدار "تورطهما" في اي رد فعل ضد حرب محتملة على ايران، مع ان الترجيحات تشير الى بقاء دمشق خارج اي حرب اقليمية محتملة، ودخول «حزب الله» وتاليا لبنان فيها، على رغم الدمار الهائل الذي ستتسبب به هكذا حرب.
وتؤكد واشنطن ان ما عدا ذلك، "لا تغيير في موقفها الثبات دعم سيادة لبنان وحقه في العدالة الدولية".
تقلص لكن لا مقايضات
وسط هذا التغيّر في الاولويات الاميركية، من خطابات جورج دابليو بوش التي كانت تحيّي يوميا "شجاعة لبنان ورئيس وزرائه السنيورة"، الى التقلّص الكبير في الهامش المعطى له راهنا، ماذا بقي منه في الاجندة الاميركية حيث لا كلام سوى عن المشروع الصحي لباراك اوباما وتأثيرات الازمة العالمية، وعن افغانستان والعراق وايران والخلاف الأميركي- الإسرائيلي والصومال واليمن؟
ثمة في واشنطن من يرمي باللائمة على "بعض الحلفاء" في اشارة الى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي كان السبب الرئيس في تشقق موقف المجتمع الدولي الذي كان في العام 2005 موحدا تجاه رفض التدخل الإيراني والسوري في لبنان. ذلك ان ساركوزي انفتح باكرا على القيادة السورية لأسباب بات معظمها معروفا، تتراوح بين الرغبة في قلب سياسة فرنسا – جاك شيراك رأسا على عقب، والحاجة الى آفاق استثمارية – نفوذية جديدة تتيحها سوريا اكثر من غيرها.
اذن، "موقع لبنان في واشنطن باق على رغم انحساره في سلم الاولويات. لكن على اللبنانيين النظر بإيجابية الى هذا التراجع، ذلك ان كل الانشغالات في الاقليم الذي يغلي على صفيح التطورات الامنية، لم يحل دون تجديد الموقف الاميركي: لا مقايضات ولا عودة الى منطق البيع والشراء والتلزيم الذي اضطرت اليه الادارة الاميركية اضطرارا منتصف السبعينات ثم مطلع التسعينات"!
لكن هل، في بيروت، من لا يزال يصدّق هذا الكلام؟
وحده جيفري فيلتمان يظهر في الصورة الاميركية – اللبنانية. يتابع الديبلوماسي النشيط والمثير للجدل، اتصالاته مع اصدقائه اللبنانيين، مباشرة او عبر الرسائل القصيرة SMS. لا ينسى اي تفصيل، بما فيه المناسبات الخاصة. يمازح ويصارح ويكاشف. ثقة رئيسته هيلاري كلينتون تعززت به، خصوصا اثر المقاربات الجديدة التي وضعها في ملفي لبنان وسوريا. كما ان مسؤولي البيت الابيض يبدون ارتياحا لقدرته على ترجمة "سياسة الانخراط" Engagement التي اعتنقها باراك اوباما.
نبيذ جنبلاط!
هل يكفي هذا وحده؟
بالتأكيد لا.
وليد جنبلاط كان اول المدركين: قطع ارسال نبيذه الفاخر (كفريا) الى متذوقيه في واشنطن ما اضطرهم الى "الشكوى"، حتى ان احدهم ذكر الامر في مقال نشر في احدى الصحف. وقرر الانسلاخ عن صداقاته هناك، لا بل كاد ان يجبر بعض المقربين منه على هذا الانسلاخ، وأعاد تموضعه. كل ذلك مباشرة بعد السابع من ايار (مايو) 2008، يوم لم يتلمّس دعما اميركيا، لو شكليا، سوى استعراضات المدمرة "كول"، كما فعلت قبلها "نيوجيرسي" بداية الثمانينات.
وتبقى الخشية الا يُستدرك هذا التغيّر الاميركي، فيُدفّع لبنان الثمن مكررا، وليلدغ المؤمن من الجحر، ربما، للمرة المئة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق