كتب رسالة الاستقلال بخط يده حرصا على ان يمرّ ما في ذهنه عبر لسانه لا عبر المستشارين
الميثاق والوفاق عنوان ثلثا عهد ميشال سليمان
رئيس الجمهورية يحضّر ورشة اصلاحات دستورية وسياسية وإقتصادية
ينشر في "الاسبوع العربي" في 30/11/2009
وسطيّة كرسي ميشال سليمان بين كرسيّي وليد جنبلاط وسليمان فرنجية في بعبدا، ظهر الاربعاء في الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، هي الوسطية الايجابية الوفاقية التي يريد (ويأمل) رئيس الجمهورية ان تطبع الثلثين الباقيين من عهده، وان تكون ايذانا ببدء فعلي لعهده المؤجل في عامَيه الاولين بقوة احداث السابع من ايار (مايو) 2008 وما لحقها من اتفاق في الدوحة نظّم الخلاف وانتج حكومة توازنات مضطربة حكمت (من غير ان تحكم) من الحادي عشر من تموز (يوليو) 2008، الى التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2009.
أدرك ميشال سليمان منذ لحظة انتخابه في الخامس والعشرين من ايار (مايو) 2008 ان عهده الفعلي لن يبدأ الا بعد سنة، اي في ضوء الانتخابات النيابية، لذا ركز في النصف الاول من عامه الاول على اعادة ترميم المظلة الاقليمية والدولية الحامية للبنان، فكثّف زياراته العربية والاوروبية والاميركية، مكتفيا في سياسته المحلية بمحاولة ادارة الخلاف عبر حمل العصا من وسطها بين فريقين تناتشا السياسة والامن والاقتصاد والمال والاجتماع في سبيل توظيفها عوامل مساعدة في نتائج الانتخابات التشريعية.
أدرك ميشال سليمان كل هذه التراكمات، فإنصرف الى الاعداد لعامه الثاني من خلال رؤى اصلاحية في السياسة والاقتصاد والمال، كما في الدستور والصلاحيات والسلاح، لكن ازمة الحكومة عكّرت عليه، فمضى نصف عامه الثاني في ظل إعاقة سياسية أَدارَتْها، بما امكن، حكومة تصريف الاعمال. ومن المتوقع ان يمضي قسما من نصف عامه الثاني في ترتيب اوراق حكمه عبر معبر إلزامي يتمثّل بتحقيق عدد من المصالحات السياسية وتصحيح الشوائب وجمع الاضداد، بدءا من قيادات الصف الاول، علما ان الرئيس سليمان لا يحبّذ كلمة "مصالحات"، ويستبدلها بـ "الحوار".
حياد لكن إيجابي!
لعل أهم ما يشير إليه مسار الحوار برعاية رئيس الجمهورية، هو التغيير المُراد ان يحصل في أدائه ودوره، فهو يريد ان يعلن من خلال خطوات ومبادرات عدة اتخذها اخيرا، مغادرته الموقع السياسي الذي قيّده في عاميه الاولين تحت مسمى "الرئيس التوافقي" و"الحياد السلبي". فالرئيس سليمان غادر الانتقالية ويعطي الإشارة تلو الأخرى إلى أن عهده بدأ فعلاً بعد اكتمال مؤسستيّ مجلس النواب والحكومة. وهو، الذي حصر إطلالاته في نطاق مواقف الوطنية والخطابات الرسمية مدروسة ومتزنة ولكنها غير كافية، قرر تغيير نمط تعاطيه وتحركه في اتجاه الانتقال إلى موقع المبادر وخلق دينامية سياسية جديدة والتفاعل بشكل أقوى وأسرع مع الأوضاع والأحداث والتأثير في مجراها.
باشر رئيس الجمهورية هذا الدور الجديد في فترة المفاوضات لتأليف الحكومة، لكن من دون ضجة، للإسهام في تفكيك العقد، وكان له دور أساسي في جَسْر الهوّة بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون، وفي تحقيق أول اختراق في الأزمة عندما قدّم المخرج لما سميّ ازمة توزير الراسبين، بعدما كان قد فتح خطا مباشرا مع عون في مسعى لتصفية رواسب الانتخابات النيابية. وبعد النجاح في استيلاد الوليد الحكومي، باشر سليمان دوراً تهدويا بدأ بجمع الأضداد وإتمام المصالحات، التي تصبّ في خانة تعزيز الدور الرئاسي التوافقي، إضافة الى إعطاء قوة دفع لحكومة التي تحتاج الى زخم المصالحات الثنائية لتفعيل انطلاقتها وتعويض رئيسها ما أصابه من نزف على مدى خمسة اشهر من مفاوضات الكرّ والفرّ. كما انه يعمل على ترتيب سلسلة متماسكة من الحوارات تسبق دعوته إلى إنعقاد طاولة الحوار من أجل أن تتكرس المصالحات الشاملة في هيئة الحوار، انطلاقا من ان اولوية ترتيب الوضع السياسي وتهيئة المناخات والظروف الملائمة لاستئناف الحوار أولا، وللخوض في موضوع التعديلات الدستورية ثانيا، تبدأ من هذه المصالحات.
طريق التعديلات الدستورية
ورئيس الجمهورية العازم على التغيير وتصحيح الشوائب التي أصابت لبنان طوال اعوام الأزمة بما يؤشر الى مرحلة من التغييرات والإصلاحات النوعية، يستشعر الصعوبات والألغام المزروعة في طريق التعديلات الدستورية. ويبدو انه قرر خوض هذه الغمار على رغم إدراكه طبيعة العقد - الهواجس التي تعترض سبيل التعديلات في صلاحيات المؤسسات الدستورية الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاستا المجلس النيابي والحكومة).
وغير خفيّ ان التحفظات الدستورية والقانونية كثيرة، عن آليات العمل الدستوري: المهل في توقيع الرئيس والمدة المفتوحة التي لا تحدد سقفا للرئيس المكلف تشكيل الحكومة كي ينجز مهمته، وولاية الاربع سنوات لرئيس المجلس النيابي التي أصرّ عليها الرئيس حسين الحسيني في اتفاق الطائف، بدلا من ولاية السنة الواحدة. وثمة من يطرح في هذا الاطار تحديد ولاية رئيس البرلمان بسنتين قابلتين للتجديد، وبذلك يُعاد بعض من التوازن في مسألة المهل الزمنية بين رئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء.
ماذا يقول الرئيس؟
مساء السبت في الواحد والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، القى رئيس الجمهورية رسالة الاستقلال مباشرة على الهواء، في احتفالية دعت اليها دوائر القصر ما يزيد عن مئة من الاعلاميين. تمركز على الطاولة الحجرية البنية التي تتوسط المكتب الرئاسي الفسيح، وباشر تلاوة الكلمة التي ظهر للمدعوين انه كتبها بخط يده. وهو غالبا ما يحذو هذا الحذو حرصا على ان يترجم افكاره بنفسه، فيمرّ ما في ذهنه الى اللبنانيين عبر لسانه لا عبر لسان المستشارين.
وفي سابقة بروتوكولية، وعلى اثر انتهاء الاحتفالية التي شملت سماع الرسالة ومن ثم حوارا متلفزا اقتصر على عدد من الاسئلة، خصص رئيس الجمهورية نحو 10 دقائق في بهو القصر للاستماع الى عدد من الاعلاميين تحلقوا حوله وقوفا. فأوضح، في الدردشة التي شاركت فيها "الاسبوع العربي"، ان التحضير جار لطاولة الحوار الوطني "وقد تتوسع لتشمل نواباً وغير نواب"، معتبراً ان "النيابة ليست شرطاً لمعيار التمثيل في هذه الهيئة ولكن سنحاول ألا تصبح فضفاضة".
وعن إمكان بحث هيئة الحوار مواضيع أخرى غير الاستراتيجية الدفاعية كإلغاء الطائفية السياسية، لفت الرئيس سليمان الى أن "الطاولة السابقة ناقشت مسائل غير الاستراتيجية الدفاعية على جدول أعمالها".
وسئل عما اذا كان دوره التوافقي يقيد هامش تحركه فأجاب بحزم: "دوري التوافقي أعرف جيداً كيف أمارسه، وما قمت به خلال سنة ونصف سنة يشكل دليلاً على فعالية هذا الدور التوافقي". وعقّب: "ألمْ تكن هذه السنة ونصف السنة افضل حالا من الاعوام السابقة؟".
وفي شأن اتخاذ القرارات في الحكومة وما اذا كانت ستخضع للتوافق المسبق أم للتصويت أوضح الرئيس سليمان "اننا في ذلك يجب أن نعود الى الدستور الذي يقول ان القرارات تؤخذ بالتوافق واذا تعذر التوافق تخضع للتصويت". واضاف "نحن علينا أن نبدأ من فوق وليس من أسفل، أي أن نبدأ بالبحث عن التوافق ثم التوافق ثم التوافق، واذا تعذر التوافق عندها نلجأ الى التصويت".
الميثاق
يقع "الميثاق" في صلب حديث رئيس الجمهورية، وهو اوردها اربع مرات في رسالة الاستقلال.
يبدو كالكلمة السحرية التي يراها المفتاح لكل ما سيقْدم عليه في الثلثين الباقيين في عهده من اصلاحات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، بدءا من مسألة الصلاحيات في المؤسسات الدستورية الثلاث.
وهو شدد في هذا المجال على معادلة "تحقيق التوازن المطلوب بين الصلاحيات والمسؤوليات تمكيناً للمؤسسات، بما فيها رئاسة الجمهورية من تأدية دورها الوطني طبقا لنص الدستور وروحه بعيداً عن المحاصصة". وشدد على ان هذا "التوجه لا يستقيم من دون معالجة الثغر التي ظهرت في عمل السلطات الدستورية بعد مضي عقدين على اعتماد اتفاق الطائف"، الذي استدرك مشدداً على انه "لا بد من المضي في السعي الى تطبيق بنوده كاملة". واذ اعرب عن تطلعه الى دور للحكومة في تحقيق ورشة الاصلاح، لفت الى انه "يمكن هيئة الحوار الوطني التي ستلتئم قريباً والتي لن تكون سلطة جديدة منافسة أو موازية للسلطة التنفيذية ولا تنوب عنها (...) ايجاد المناخات المناسبة للمضي قدماً في هذا التوجه".
حتى في مسألة الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، يرى رئيس الجمهورية ان "الميثاق" هو الوازن والطريق الإلزامي لها، يضيف الرئيس: "لا خطوة في هذا الاتجاه لا تراعي الفقرة "ياء" من مقدمة الدستور، انطلاقا من ان "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق