إلغاء الطائفية السياسية والعلمانية متلازمان ... والنقاش يجب ان يستكمِل اشكالية الصلح - شيحا
"لاءان" فقط تصنعان دولة!
العلمانية ثمن شيعي باهظ لطموح الغاء الطائفية السياسية
ينشر في"الاسبوع العربي" في 25/1/2010
أُغرِق البلد، من جديد، في نقاش بيزنطي على خلفية اشكالية الطائفية السياسية، التي من عمر الكيان. تبارى الجميع على الادلاء بدلوهم بين مؤيد ومعارض ومتحفّظ، لكن بقيت الاشكالية في خانتها الاولى: مَن يسبق مَن، النفوس ام النصوص؟
"انّها ساعة مباركة تلك الساعة التي تلغى فيها الطائفية من دستور هذا الوطن (...) إن الساعة التي يمكن فيها الغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله، ومن الطبيعي ان تحقيق ذلك يحتاج الى تمهيد وإعداد في مختلف النواحي حتى لا تبقى نفس إلا وتطمئن كل الاطمئنان الى تحقيق هذا الاصلاح القومي الخطير".
هذا الكلام ليس طازجا. ليس لنبيه بري، اليقظ هذه الايام في مسألة خلافية بإمتياز، ولا هو من ادبيات الحركة الوطنية زمن الثمانينات، ولا هو من احد خطابات ما بقي من شراذم الاحزاب العلمانية. انه مقتبس حرفي من البيان الوزاري للحكومة الاستقلالية الاولى تلاه الرئيس الراحل رياض الصلح في البرلمان طالبا على اساسه ثقة مجلس العام 1943.
مضى على هذا الكلام، واستطرادا على هذه الحال من التمنيات العسلية، 67 عاما حفلت بالكثير الا ببدء نقاش جدي في مسألة عمرها من عمر لبنان العام 1860، لكن لا الساعة التي استقرأها رياض الصلح ازفت، ولا الاعداد والتمهيد الذي افتى بهما، آن اوانهما.
تلازمان يفترقان
في احدى الجلسات الأولى للحكومة الاستقلالية، طرح رياض الصلح فكرة الغاء الطائفية السياسية فرد ميشال شيحا، نسيب رئيس الجمهورية بشارة الخوري، بشعار علمانية الدولة. ومنذ حينه ادرك اللبنانيون ان اتفاقهم على الاستقلال والعروبة والديموقراطية لا يخفي او يحجب اختلافهم على صوغ طبيعة الدولة ونوع التوازنات التي ستقوم بين الطوائف والتيارات السياسية. فإنبرى الفقهاء والمفكرون الى البحث عن مساحة مشتركة -مهما ضاقت- تصلح مرحليا الى التأسيس لشبه دولة ذي وجه عربي، لا شرقية ولا غربية، ما دفع جورج نقاش في العام 1949 الى "نقش" ما تحوّل شعارا كيانيا: لاءان لا تصنعان امّة Deux Negations ne font pas une nation، في اشارة الى الفكرة التي جُرّبت في حينه لبناء شبه الدولة: لا للشرق ولا للغرب.
منذ تلك الايام، ثبت أن المسيحي اللبناني غير متحمس لشطب الطائفية السياسية نصا ودستورا، وثبت ان المسلم غير مستعد للقبول بالعلمانية ثمنا باهظا لطموح الغاء الطائفية السياسية. وثبت، استطرادا، ان هاتين اللاءين Deux Negations هما مفتاح العبور الى الدولة الحديثة.
اذن، هل نبيه بري، القارئ المتأني والقادر على استنباط الحراك السياسي من قعر بئر جافة، يُقْدِم على ما قد يحرق اصابعه؟ ام هو يستقرأ، كما استقرأ مرات كثيرة في اعوامه السياسية – الزعماتية، أن اوان الاعداد والتمهيد "الصلحي" قد حان فعلا، وانه لا بد من شرب كأس بدء نقاش وحوار فعلي في مسألة وجودية وكيانية، مهما إشتدّ علقمها؟
الطائفية في الوجدان المسيحي
ليس نبيه بري هاوي معارك خاسرة، ولا هو أدمن المناقرة من اجل المناقرة، ولا هو أقدم يوما على خطوة غير مدروسة او معللة.
تأسيسا على ذلك، لا يفترض المراقبون ان رئيس البرلمان طرح مسألة تشكيل الهيئة من باب المناورة او بغرض تمويهي لردّ النقاش حول سلاح المقاومة، ذلك انه يبدي في كل جلساته الخاصة اصرارا غير سابق على السير بهذه الخطوة حتى لو لم يحصّل تأييد كل المعارضة، علما انه يكتفي راهنا بدعم صديقه اللدود وليد جنبلاط، في حين يؤثر "حزب الله" على مسك العصا من وسطها.
اما العماد ميشال عون فهو لم يخف تحفظه عن التوقيت، وجاهر بأن الخطوة ناقصة ما لم تسبقها خطوات اجرائية وقانونية وتشريعية عدة، هي الاخرى منصوص عليها في اتفاق الطائف كاللامركزية الادارية - صنو الفدرالية- التي يستذكرها الوجدان المسيحي كلّما أفاقت الذاكرة الشيعية على العددية والغاء الطائفية السياسية.
ويُبرز الحوار الذي جمع سامي الجميل وسيمون ابي رميا في احد الجامعات، حقيقة تلاقي الجماعة المسيحية، على اختلافات تلويناتها، على التحفظ عن مشروع نبيه بري. فأبي رميا وصف الطرح بالمتسرع "لأن الواقع الطائفي يتحكم بمفاصل الدولة في غياب الدولة القادرة"، أن "المشكلة في لبنان هي المحسوبيات لان الارادة السياسية للبعض تشدد على ان يكون حزبها الممر الاجباري للمواطن باتجاه مؤسسات الدولة. وقال: يبدو أننا لسنا متفاهمين على الصيغة الدستورية في لبنان وهذه اشكالية النظام . اما الجميل فرأى ان الغاء الطائفية سيؤدي الى حكم الطائفة الاكبر عددا، "ونحن نطالب في حال أُلغيت، بالانتقال الى نظام الفدرالية كضمان للمسيحيين، انما المطلوب لا هذه ولا تلك بل تطوير النظام". اضاف: إن منطق التحدي الذي فرضه رئيس البرلمان "لا نمشي به".
حماس وفتور
ثمة انطباع لدى معظم البعثات الديبلوماسية في بيروت ان الغاء الطائفية السياسية مطلب شيعي – درزي بإمتياز تتفق عليه الاقلويتان –من مقاربتين وظائفيتين مختلفتين- منذ ان فرزت الحرب اللبنانيين عشائر وقبائل وجماعات متناتشة، في حين تلتقي الاقلويتان المارونية والسنية، كل من وجهة مفترِقة، على التحفظ عن الغاء الطائفية السياسية، ربما مخافة طغيان الاكثرية الاقلوية، وربما رغبة في استعادة مجد مضى.
من هذا الانطباع، ينفذ ديبلوماسي بارز الى قراءة بسيكولوجية وسوسيولوجية للاقلويات التي فشلت في صنع وطن، ولطبيعة تركيبتها ومدى قدرتها على فهم المحيط التي تتحرك فيه. ويُبرز اهتماما خاصا بأقلويتين هما راهنا مدار حراك لإستدراك ما فات كل منهما من مكاسب سياسية نتيجة طبيعة نظام الـ 1943 وذلك الذي قام على انقاضه في العام 1989:
1-فالجماعة الشيعية التي اخرجتها الحرب من حرمان سياسي وحتى ديني، استفاقت على انها اكثرية بين الاقلويات وانه لا بد له من تعويض ما فقدت من مكاسب ووظائف سياسية جراء الثنائية المارونية – السنية التي حكمت لبنان حتى بداية التسعينات تحت مسمى المارونية السياسية، والتي خلفتها السنية السياسية لاعوام اربعة بدأت مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وتكاد تلفظ انفاسها، مع كل التغيرات الدراماتيكية التي شهدها الاقليم، بدءا وليس انتهاء بالمصالحات العربية المتفرقة.
ولا تتردد الاقلوية الشيعية في ان تطرح نفسها وجماعتها، الخلف المحسَّن والمطوَّر والمعدَّل جينيا للمارونية والسنية السياستين، انطلاقا من ان من حقها ان تجرّب ما فشلت فيه تلك الاقلويتان. ولا بأس ان تكون كل الادوات المتوافرة لدى هذه الاقلوية، بما فيها السلاح، عناصر توفّر لها انضاج ظروف استقامة الشيعية السياسية.
2-اما الجماعة الدرزية، أصغر الاقلويات الحاكمة من خارج اي نص او تشريع او دستور، فهي ترى في تطبيق الغاء الطائفية السياسية، او مجرّد بدء النقاش في شأنها، البوابة للدخول الى الحكم او الى جنة "دولات الرئيس" من باب مجلس الشيوخ. وهي تدرك تمام الادراك ان بندا الطائف العالقان، متّصلان بحبل صرة. ويبقى استطرادا ان الاقلوية الدرزية لن تنال ما منّت له النفس منذ العام 1989 الا في حال بدء البحث في اشكالية الطائفية السياسية، بصرف النظر عن المدى الذي سيكون عليه البحث، سنيناً كان ام عقوداً، مع يقينها ان الطريق لن تكون معبّدة امام ترئيسها مجلس الشيوخ، انطلاقا من نقاش مذهبي سيلي تلقائيا بدء البحث الجدي في تشكيل المجلس. من تحق له الرئاسة؟ الدرزية التي طالما انتظرت هذه اللحظة، على رغم انها اقلية التسعة بالمئة؟ ام الارثوذكسية، رابع المذاهب، التي طالما نشدت رئاسة ضائعة؟
ويرى الديبلوماسي ان في هذين الحراكين الشيعي والدرزي عوامل لا بد من ان تتدراكها الزعامتان – الحاكمتان، اقتداء بخلاصات تاريخية خبرها اللبنانيون منذ زمن الثنائيات: المارونية – الدرزية، فالمارونية – السنية، الى الاحادية السنية، وصولا الى الخلط الحاصل راهنا، نتيجة التنافس على خلافة "نظام" ما بعد 14 شباط (فبراير) 2005، وختى لا تتكرر النقاشات العبثية التي عادت ما انتجت الاصطدامات والازمات ... والحروب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق