السبت، 5 ديسمبر 2009

Sphere: Related Content

الفاتيكان لم يكن غريبا عن التأسيس لزيارة الجنرال ومشاركته في مجلس المطارنة

صفير وعون او مأزق الاشكالية بين الزعامتين الروحية والسياسية

دستور الجماعة المارونية: البطريرك "آمر البلد" يرأس الأمة

بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيا وبمؤازرة الأمراء والمُقدَّمين مدنيا

ينشر في "الاسبوع العربي" في 14/12/2009

ما بين نصر الله صفير، ابن ريفون الريفية، وميشال عون ابن حارة حريك المتضائلة مسيحيا (مساحة وديموغرافية)، مساحات مشتركة من الذاكرة والتاريخ، جلها سلبية، بدءا وليس انتهاء بـ "الهجوم" الشهير (الذي ينكره انصار "التيار الوطني الحر") على الصرح البطريركي والتنكيل بالبطريرك معنويا وجسديا.

الذاكرة عابقة بالكثير مما إعتمل بين البطريرك والجنرال، وهي في جزء منها استعادة تاريخية للعلاقة المتوترة، في معظم مساراتها، بين الزعيم الروحي للكنيسة المارونية والزعيم السياسي (غالبا ما كان يمثل رئيس الجمهورية هذه الزعامة) للجماعة المارونية.

ما بين البطريركية والزعامة، إذاً، إشكالية في علاقة عمرها من عمر الوعي التاريخي للبنان الكبير، وربما ابعد من ذلك الى ملازمتها لولادة الكيان مع الإمارة المعنية، في تلازم صدامي متفجّر مذذاك، "وإلاّ فمَن غير الإكليروس الماروني نظّر لطانيوس شاهين غير المتعلّم، في مواجهة الزعامة السياسية المتمثّلة في الإقطاع يومها"، وفق ما يقول احد المؤرخين.

وحده البطريرك الياس الحويك استطاع اختصار الموقعين، فحلّ بطريركا روحيا وسياسيا للجماعة المارونية بتوكيل عام غير قابل للعزل نجح من خلاله في العام 1920، في ايجاد لبنان الكيان والدولة والجمهورية.

قبل ذلك وبعده، مرورا بالخمسينات زمن كميل شمعون وبولس المعوشي، وصولا الى العام 1986 مع حبرية نصر الله صفير، طغت الازدواجية على الجماعة المارونية التي توزعت بين الزعامتين في "تناتش" متعب ومهلك للجمعة وربما للكيان.

في الاساس، تشكل رئاسة الجمهورية مع البطريركية المارونية إحدى السلطتين اللتين تمثلان المسيحيين في لبنان، وأي خسارة في أحدهما تشكل مفترقا صعبا في تاريخ الكنيسة المارونية.

وعلى رغم هذا الادراك، بقي تنافس الزعامتين على اشدّه، ظاهرا حينا وكامنا أحيانا، وكلاهما يرى ارتباط استمرار الكيان بموقعه ورؤيته.

وأثبت المسار التاريخي صحة قول شارل مالك عن البطريركيّة المارونيّة انّها "مركز روحي فريد في الشرق الأوسط. الكل يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه. بإستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة".

حق التدخل من "كتاب الهدى"!

زادت لغة الازدواجية عنفاً وعداء، مع بدء الحروب المتتالية، حتى حفلت أدبيات التخاطب بين بكركي وزعامات الحرب من المسيحيين بكل أنواع الكلام الكبير. ورافقت عبارة "إطلاع العشب على درج بكركي" معظم العهود الرئاسية، كدلالة على رغبة الزعيم في الاقتصاص من البطريركية وحظرها التعاطي في الشأن السياسي.

واقع الحال ان كلمة "بطريرك" تشتقّ من الجذر اليونانيّ Patriarkis وهي مركّبة من Patria "عِرق" أو "بلد"، ومن Arkin أي "آمر"، فيكون معنى كلمة بطريرك: "آمر البلد". والطّابع المدنيّ الذي اتّصفت به سلطة البطريرك قبل الإسلام وبعده، كان الدّافع الأساسيّ إلى خلق مجموعة قانونيّة خاصّة في الشّرق، تسمّى بالنُومو-قانون Nomocanon نظير "كتاب الهدى" الذي يُرجّح أنّ الكنيسة المارونية قد اعتمدته كشرع خاص لها في مطلع القرون الوسطى، وهو يحوي مجموعة مختلطة من الحق القانوني وبعض القوانين المدنيّة التي حدّدت صلاحيّات رؤساء الدّين الأعلين، مانحة للبطاركة بعض الامتيازات.

يظهر جليا في "كتاب الهدى"، وهو دستور الطائفة المارونية، تبدّل مفهوم أولويّة السلطة الكنسية عموما والبطريركية خصوصا، وتقدمها على السلطة الملكية أو الحاكم السياسي في الشرق المسيحي، منذ مطلع القرون الوسطى على الأقل. كما يتبيّن بوضوح أكبر، حق البطريرك بالتدخل المباشر في سلطة الملك، في حال مخالفة الأخير الشريعة، حتى درجة عزله، اذ من واجبه السهر على العدالة والإيمان والأخلاق داخل الإمبراطورية التّيوقراطيّة.

تبنى الموارنة "كتاب الهدى" كما هو، وبما أنه لم يكن لهم ملك يحكم أمتهم، إذ لم يكونوا جزءا من الإمبراطورية البيزنطية- والإسلامية لاحقا-، كان بطريركهم يرأس الأمة المارونيّة بمعاونة الأساقفة والكهنة كنسيا، وبمؤازرة الأمراء والمُقدَّمين، مدنيا. أما العلاقة بينه وبين الأمراء والمقدّمين في المجتمع الماروني، فكانت أشبه بعلاقة بطريرك القسطنطينية بالإمبراطور البيزنطي. فالمقدّمون كانوا حكّام بعض المقاطعات المارونيّة، يعيّنهم البطريرك، ويمنحهم درجة الشدياقية، وهذا شبيه قياسيا بما كان يفعله بطريرك القسطنطينية عند تتويج الإمبراطور. وكان يحقّ للأمراء والمقدمين الجلوس في الكنيسة بعد الكهنة، كما الإمبراطور عن يمين بطريرك القسطنطينية أمام المذبح. وللبطريرك المارونيّ أيضا، أن يعاقب المقدّم بالحرم الكنسي عندما يستدعي الأمر، كما كان لبطريرك القسطنطينيّة، حق توبيخ الملك إذا خالف الشرائع، وخلْعه من منصبه.

بذرة الاستقلال

من نافل القول أن بذرة لبنان المستقل بذرها البطريرك الحويك في العام 1919 عندما رأس وفدا يضم مسلمين ومسيحيين من أنصار استقلال الكيان، إلى مؤتمر السلام الذي عقد في فرساي، وطلب الاستقلال عن سوريا التي كان الانضمام إليها خيارا آخر لفريق لبناني ثان جله من المسلمين.

وكان الحويك حاضرا يوم أعلن الجنرال غورو المندوب السامي الفرنسي في سوريا دولة لبنان الكبير في الاول من أيلول (سبتمبر) 1920، وشهد أيضا في العام 1926 انتخاب شارل دباس الأرثوذكسي أول رئيس للبنان، واعترض عليه لأنه كان يرى أن منصب رئاسة الجمهورية هو من حق الموارنة، وهو ما تكرس لاحقا.

وخلف الحويك البطريرك أنطون عريضة (1932–1955) وكان اول البطاركة الذي يشهد رسميا استقلال لبنان عن سوريا ونشأة الكيان اللبناني. ومن أبرز ما عرف عن عريضة أنه اعترض في العام 1944 على بعض ما جاء في "بروتوكول الإسكندرية" الذي كان يمهد لتأسيس الجامعة العربية، ورأى فيه توجها نحو "الوحدة التامة اقتصاديا وسياسيا" ما "يضيع حق لبنان في الاستقلال".

ومع حبرية بولس المعوشي (1955–1975)، أظهرت الكنيسة المارونية مواقف سياسية مباشرة حيال بعض القضايا، حيث وقف المعوشي ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان متخوفا من الإطار الوحدوي الذي جمع مصر وسوريا، حتى ان بعض مؤيدي شمعون أطلقوا على المعوشي "بطريرك المسلمين"، "ومحمد المعوشي" لتلاقي موقفه الإيجابي من الوحدة مع موقف المسلمين. كما عارض المعوشي اتفاق القاهرة في العام 1969 الذي منح حرية التحرّك للمنظمات الفلسطينية في لبنان، بسبب "البنود ‏العسكرية" التي تضمنها والتي كانت بالفعل شرارة تراكم الترسبات والتناقضات لاتي ادت بعد ستة اعوام الى اندلاع الحرب اللبنانية.

وللمفارقة رحل المعوشي قبل الحرب بشهرين، ليخلفه أنطونيوس خريش (1975–1986) بطريركا جديدا للموارنة، عايش الحرب من بدايتها ولم يلعب دورا سياسيا رئيسيا ما خلا بعض المحاولات لإصلاح الود المسيحي الممزق والذي فرقته الخيارات المتضاربة في هوية لبنان ودوره في محيطه، الى ان استقال من منصبه لتقدمه في السن قبل نهاية الحرب، وحلّ نصر الله صفير خلفا له (1986).

وكثيرا ما شبه المراقبون نصر الله صفير ببولس المعوشي، بسبب تدخله المباشر في المسائل السياسية التي واجهت الجماعة المارونية، بدءا من موافقته على اتفاق الطائف، مرورا بنداء السيادة في العام 2000 ومن ثم رعايته "لقاء قرنة شهوان"، وليس انتهاء بالازمة التي تلت اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.

أسباب الإشكالية

تتنوع التحليلات والمقاربات لاسباب الاشكالية بين البطريرك والجنرال: يرى بعضهم انها من ضمن أثمان الحرية المسيحية، او في سياق جدلية الديني والدنيوي، او حتى من ضمن ثنائية التنظيم الكياني للأقليات الشرق أوسطية، التي واجهت مركزية السلطة السنّية في "دار الإسلام"، وفق فؤاد إسحق الخوري، في بحثه "إمامة الشهيد وإمامة البطل". اما البعض الآخر فيردها الى نقص في الكيمياء بينهما، زادها حدة اعتبار عون ان صفير كان احد اسباب عدم تمكّنه في اعتلاء كرسي بعبدا بين العامين 1988 و1989 ومن ثم تغطية البطريكية اتفاق الطائف وانهاء زعامة عون في بعبدا، قفزاً الى ازمة الرئاسة بين العامين 2007 و2008.

فمع الطائف ووسط الفراغ الرئاسي، تحوّلت الثنائية انقساما بين زعامة سياسية انتهجت شعارات التحرير وتوسّل كل الوسائل في هذا السبيل بما فيها معاداة كل العالم، وزعامة روحية ترى ان خلاص المسيحيين يكمن في الانصراف عن الحروب والتفاعل مع تسويات الخارج، ومنه الطائف برعاية سورية – سعودية وبحضانة اميركية.

غير ان الرعاية التي اتت برينيه معوض رئيسا للجمهورية الثانية ما لبث ان تحوّلت عرجاء اثر اغتيال اول شهداء وثيقة الوفاق الوطني، لتتسارع الاحداث دراماتيكيا وبما لم تكن لبكركي حول به او دراية: الياس الهراوي فضوء اخضر للجيش السوري بـ "انهاء حالة عون"، ثم تلزيم لبنان الى سوريا بإرادة اميركية فرضتها موجبات حرب العراق في آب (اغسطس) 1990.

أسقطت هذه الدراماتيكية كل الوعود والعهود والالتزامات، وانتهى الأمر إلى 14 عاماً من الهزائم المتوالدة والمتراكمة، حقيقةٌ ادركتها البطريركية والزعامة، لو متأخرا!

المسار الجديد؟

يؤمل ان يشكل اللقاء الاخير بالبطريرك والجنرال في بكركي في الثاني من كانون الاول (ديسمبر)، نهاية للازدواجية الحادة بين الرجلين وبداية لتنظيم العلاقة بينهما، لو في السياق العام للعلاقة المتذبذبة بين الزعامتين.

البعض يرى ان اللقاء مرشح لأن يؤسس لإستدامة في العلاقة، خصوصا انه ارتكز على مسار عام لم يكن الفاتيكان غريبا عنه، مع تعدد الزيارات العونية الى الحاضرة، انتهاء بالزيارة (لم تكن الاولى) التي تردد ان وزير الطاقة جبران باسيل قام بها الخميس في السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث قابل على رأس وفد، كرادلة واساقفة في الكرسي الرسولي، في مقدمهم الرجل الثاني في الفاتيكان سكرتير الدولة الكاردينال تارسيسيو برتوني ووزير خارجية الفاتيكان جان لوي توران، وتمّ البحث في مجمل الأمور العائدة الى الكنيسة المارونية وترتيبات لقاء عون وصفير.

عاد باسيل الأحد في التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر)، منهيا استشارات استمرت نحو شهر مع الكرسي الرسولي، سهّلت السبيل للنائب ابراهيم كنعان في مكوكيته بين الرابية وبكركي، وأثمرت انضمام عون الى مجلس المطارنة الموارنة برئاسة صفير في الثاني من كانون الاول (ديسمبر).


ليست هناك تعليقات: