سيرة رجلين توافقا على الخلاف واختلفا على الالتقاء
عون وجنبلاط: حوار الذاكرة والواقع وأشياء اخرى
لقاء بعبدا الاخير في ترتيب التحول السياسي لزعيم المختارة قبل بلوغ اسوار الشام
ينشر في "الاسبوع العربي" في 7/12/2009
كان ذلك في باريس، في الخامس عشر من نيسان 2005. زار وليد جنبلاط ميشال عون في منفاه الباريسي. يومها، كان جنبلاط القلب النابض لـ "ثورة الارز"، والباحث في كل الاصقاع عن روافد للثورة، سياسية وبشرية وحزبية. كان يلهج في سبيل توحيد المعارضة، وتسهيل تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، لأنها المعبر الى انتخابات نيابية كانت قوى الرابع عشر من آذار (مارس) تراهن عليها لقلب التوازنات وإطلاق حلم (وهْم؟) الثورة. يومها ايضا، رفض جنبلاط أخذ صورة تذكارية مع عون، ربما لكي لا يبقي أي اثر لهذا اللقاء اليتيم بين رجلين تواعدا على الافتراق، وفارق بينهما جيش وجبل وسوق غرب وادارة مدنية واجراس كنائس وانعزال مسيحي، والكثير مما يعتمل زعيم المختارة من هواجس تجاه المؤسسة المرقّطة.
في الخامس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، بعد 1684 يوماً بالتمام والكمال من اللقاء الباريسي، كان المشهد مغايرا. جنبلاط عاد الى حيث كان قبل خطابه التموضعي الشهير في البرلمان في العام 2000 حين لاقاه عاصم قانصوه بتهديد ووعيد، في حين انتقل عون خطوة خطوة الى جانب آخر سبق ان مكث فيه جنبلاط عقدين.
الصورة تاريخية في القصر الجمهوري. رجلان لم يلتقيا وجها لوجه الا مرتين:
-واحدة في العام 1985 يوم صار عون قائدا للجيش. وجاء هذا اللقاء بعد نحو عام وقليل من نجاح (من كان حينها) قائداً للواء الثامن المُدافِع عن القصر الجمهوري في بعبدا، في صدّ هجوم الحزب التقدمي الاشتراكي على المنطقة عند حدود بلدة سوق الغرب، بعدما نصح قائد الجيش آنذاك العماد إبراهيم طنوس الرئيس امين الجميل بنقل مقرّ رئاسة الجمهورية من بعبدا إلى بكفيا لخشيته من احتلال القصر.
-وثانية في منزل عون في الدائرة السابعة عشرة في العاصمة الفرنسية. زيارة خاطفة -متوترة إقتصرت على 20 دقيقة، في حضور سيمون أبي رميا ووائل ابو فاعور، وأفضت الى تكريس إفتراقهما المؤرخ منذ بدء الحرب اللبنانية.
قيل الكثير في ذلك اللقاء وخلفياته، وأُسس عليه لتبرير ما حصل بعدها، بدءا من الحلف الرباعي انتهاء بوثيقة التفاهم.
أ-انصار جنبلاط قالوا انه وقعوا منذ حينه، على تحوّل في موقف العماد عون، تبيّن لهم لاحقا انه نتج من بدء اتصالات بينه وبين نظاميّ الحكم في بيروت ودمشق عبر وسطاء محددي الاسماء (اميل اميل لحود ويوسف سلامة وكريم بقرادوني وكمال يازجي وانطون الخوري حرب...).
ب-وأنصار عون قالوا انهم تنبهوا منذ حينه، أن ثمة ما يحاك لإفشال عودة الجنرال من منفاه ومنعه من خوض الانتخابات النيابية، بعدما بانَ لهم ان عودته قد تنسف تركيبات حصصية عملت عليها باريس وواشنطن لإقتسام النظام الناشئ من الانسحاب السوري.
حليفان؟
اذاً، الرجلان باتا بعد كل هذه الذاكرة الطافحة، حليفين بالقوة وبالفعل –وفق المنطق الفلسفي الذائع- حتى لو لم يعترفا بعد، او يحبّان.
تصالحا برعاية رئاسية، لكن الرئيس ميشال سليمان يفضّل ان توصّف ديناميته الجديدة، بـ "حوار".
هو حوار بشوارع متفرعة يؤمل ان تجمع "جبلين" لم يلتقيا بعد، هما سمير جعجع وسليمان فرنجية، وعندها تكتمل الصورة وتجهز آليات دعوة هيئة الحوار الوطني الى اجتماعات تتخطى الطابع الفولكلوري التي تحوّلت عليه قبل اسابيع من توقفها في حزيران (يونيو) 2009.
واقع الحال ان الأهمية التي يكتسبها "حوار" عون - جنبلاط هي رمزية بنكهة سياسية. فاللقاء هو الأول بينهما -ما خلا المصافحات في الحوار الوطني- منذ عودة عون من منفاه الباريسي الذي شارك جنبلاط في ترتيبه بداية التسعينات.
العلاقة بينهما منذ الثمانينات، تصادمية وصراعية: تواجها عسكريا في سوق الغرب في العام ١٩٨٣. وتصادما سياسيا عندما ترأس عون الحكومة الانتقالية في العام ١٩٨٨. يومها، ضغط جنبلاط على اللواء محمود طي أبو ضرغم (الوزير الدرزي) فإنحسب، ليتقدّم زعيم المختارة المتصدين والساعين الى اسقاط الجنرال بثمن اتفاق الطائف، وبأي ثمن آخر.
ظلا على افتراق، في مقاربة الطائف والسياسة والاقتصاد، حتى لقائهما اليتيم في باريس في ربيع العام 2005. تواصلا من غير اتفاق، وعاد جنبلاط يبشّر في بيروت بـ "تسونامي" هائج.
تبيّن لاحقا ان ايا من الاثنين لم يرد الاتفاق: جنبلاط كان يخيّط التحالف الرباعي مع نبيه بري، وعون كان ينسج خفية ترتيبات عودته، ليبدأ تحوله رسميا الى الجانب الآخر من السياسة اللبنانية الشيّقة في السادس في شباط (فبراير) 2006، مع توقيع وثيقة التفاهم مع "حزب الله".
جنّ جنون جنبلاط، فإنقلب على التحالف الرباعي ونعاه لا بل انكر وجوده، وكرّس عداءه مع عون والذي استمر حتى دراما السابع من ايار (مايو) 2008، حين بدأ جنبلاط استدارته ناحية دمشق عبر حلفائها في بيروت. فكان عليه ان يمشي درب الجلجلة مع من عاداهم او استهزأ بحيثياتهم ونعتهم بأشد الاوصاف قبحا، من حزب الله و"جمهوره الشمولي المغلق" الى وئام وهاب وطلال ارسلان والحزب السوري القومي الاجتماعي وصولا الى سليمان فرنجية.
اما آخر العنقود في سلسلة التحوّل السياسي الجنبلاطي فكان مع ميشال عون، في انتظار ابواب الشام المتحفظة، على رغم كل الرسائل والود المغلف بالحذر.
اللقاء المؤجل
صحيح ان لقاء جنبلاط – عون استؤخر اشهرا، لكنه كاد ان يحصل مرتين: واحدة في منزل طبيب صديق هو نبيل الطويل، واخرى على عشاء في كليمنصو بعدما تخلف عون في اللحظات الاخيرة. اما الثالثة الثابتة فكان مقدّرا ان تحصل، لا فارق في بعبدا او خارجها. ذلك ان ظرف الالتقاء نضج ولم يبق سوى الاخراج والصورة، فإتصل رئيس الجمهورية بالرجلين شارحا مسعاه الحواري ومتمنيا عليهما ان يبدآ الحوار من عنده خصوصا انه يدرك ان هذه الحوارات التصالحية تكرس الدور الوطني المرجعي لرئاسة الجمهورية وتصلّب الاستقرار السياسي وترسي المناخات لاستئناف الحوار برعايته المباشرة. وكان له ما اراد.
لم يلتق الرجلان سابقا على رغم كل الوساطات، لاسباب عدة منها:
-لم يرد عون ان يكون اللقاء مجرد صورة تخدم جنبلاط في تحوّله. وهو سبق ان صارح الوسطاء مرارا قبل السابع من ايار (مايو) ان لا لقاء مع البيك الا في ضوء تغيير لغته واسلوبه ونهجه مع حزب الله. كما لم يرد ان يأتي الاجتماع بلا اجندة سياسية، لو مختصرة، تفتح باب نقاش جدي علمي بينهما، محوره عودة المهجرين، وتطبيع الجبل بين مسيحييه ومسلميه ودروزه، وهو امر لم يكتمل على رغم الزيارة التاريخية للبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير في آب (اغسطس) 2001 وما لحقها من تنسيق بين الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية.
-جمّد جنبلاط، اثر الضجة التي لحقت خطاب البوريفاج في الثاني من آب (اغسطس)، خطواته التموضعية الى ما بعد تشكيل الحكومة لاحتواء ردة فعل المحيطين بسعد بالحريري. فتفادى في فترة تشكيل الحكومة ان يلتقي عون حتى لا يتسبب بإحراج اضافي للحريري، وحتى لا يتيح لزعيم الرابية الاستقواء بهذا اللقاء لتعزيز موقعه التفاوضي. لكنه ايضا لم يجد للقاء بعون سبيلا مؤثرا من سبل مصالحة دمشق. كما انه، انطلاقا من امساكه بورقة الجبل الجنوبي، يحاذر ان يشاركه عون في معادلة الجبل وزعامته. غير انه في المقابل لم يرغب في استبدال فك ارتباطه مع ثنائية امين الجميل – سمير جعجع، بحلف مع عون، بل لا يزال يفضل اعتماد بكركي والبطريرك صفير الذي أرسى معه مصالحة الجبل، عنوانا لعلاقته مع المسيحيين، في موازاة تحسّن علاقته مع رئاسة الجمهورية، في علاقة ود وثقة لم يسبق ان تطورت بين جنبلاط وأي رئيس.
لجنتان للمتابعة
تمخض عن اللقاء في قصر بعبدا تشكيل لجنة متابعة ميدانية تمثل عون وجنبلاط وايضا رئاسة الجمهورية، وفي الوقت الذي لم يُكشف اسم ممثل الرئاسة في اللجنة على رغم الحديث عن اتجاه الى تسمية العميد بسام يحيى، سمى الزعيم الدرزي عضو قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي ناصر زيدان فيما سمى زعيم الرابية المسؤول عن الاعلام ناصيف القزي، على ان تولى اللجنة متابعة الملفات والقضايا الميدانية المشتركة في الدوائر الرسمية وغير الرسمية.
في الموازاة، تم الاتفاق على تشكيل لجنة تنسيق تضم وزير المهجرين اكرم شهيب والنائب آلان عون، مهمتها التنسيق في كل ما يرتبط بعنوان المهجرين، ومن ضمنها تلك المتعلقة بإستكمال المصالحات خصوصا في قرية عبية في الشحار الغربي، وكفر سلوان في المتن وبريح في الشوف، اضافة الى الامور ذات الصلة بإعادة الاعمار المنازل وترميمها.